مقدمة

عاشت منطقة نجد قبل فترة النفط في تقلباتٍ اقتصادية عندما كانت تعتمد على المناخ والأمطار لتغذية الوديان بالمياه الجارية التي تعتمد عليها الزراعة، ورَي المراعي التي يعتمد عليها رعاة الإبل وغيرها من المواشي. وهذه التقلبات كانت تؤثر بشكل مباشر على أصحاب الأعمال سواءً كانوا مزارعين أو اصحاب مواشي أو تجار، لأن منظومة الأمن الغذائي تحيط بجميع هذه الفئات. ولذلك كانت مبادئ التكافل والتراحم والإيثار سلوكاً مطرداً في المجتمع المسلم، يشكل صمام أمانٍ للمجتمع في زمن الأزمات. من ذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدح الأشعريين على سلوك التكافل عند الفاقة: عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

"إنَّ الأشعريين إذا أرمَلُوا في الغَزْوِ، أو قَلَّ طعامُ عِيالِهم بالمدينةِ، جَمَعُوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثم اقتَسَمُوه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسَّوِيَّةِ، فَهُم مِنِّي وأنا مِنهُم".[1]

ولذلك كان خُلقُ التكافلُ والتراحم سمةً بارزةً بين أعيان العتيقي يبرز على وجه الخصوص عندما تشتد الأزمات، ويتطلع الناسُ إلى المُحسنين لحماية المعوزين من الفاقة. وقد سجل التاريخ أمثلةً رائدةً من ذلك، فهذا عبداللطيف بن عبدالله العتيقي في الكويت يفرش الموائدِ في المجاعة المعروفة "الهيلك" والتي استمرت قرابة ثلاث سنوات، وتسببت في هلاك كثيرٍ من الناس في الجزيرة العربية، وما حولها من بلدان.[2] وفي غير ذلك من الأوقات، كان للعتيقي بصفةٍ عامة موسمٌ سنويٌ يفرشون فيه الموائد في المحلة المعروفةِ باسمهم وينحرون الأضاحي وينثرون موائد العيش للفقراء والمعوزين، ولهم عاداتٌ سنويةٌ معروفةٌ في الإحسانٍ إلى الفقراء والمساكين من الأُسر المتعففة مما يحرصون على كتمانه طلباً للأجر والثوابِ من عند الله تعالى. وهي عادةُ شائعةٌ بين أهل الخير في المجتمع ومنتشرةٌ بينهم لا تكاد عائلةٌ تتأخر عنها. وما كثرةُ الجمعياتِ الخيرية والمبراتِ إلا انعكاسٌ مباشر لخلق التكافل والتراحم في المجتمعات العربية والإسلامية.

ولكن رغبة أهل الخير في كتمانِ أعمالهم احتساباً للأجر والثواب، لا يمنع أن نسرد بعض الأمثلةِ، وخاصةً مما عرف عن الوُجهاء الراحلين، وذلك لتكون نبراساً يقتدي به غيرهم، واستنهاضاً لهمم الأجيال الصاعدة في التأسي بأخلاقهم الكريمة. نستعرض في هذه المقالة موقفين من مواقف المروؤة والشهامة التي كان يتمتع بها عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالرحمن الأحمد العتيقي،[3] والتي اشتهرت على الألسن وصار مناسباً أن توثق لتكون مثلاً يُحتذى. وكان عبدالرحمن المشار إليه أول أمره معمارياً (أستاذاً) مثل إخوته فهد وحمد ومحمد، ثم شرع في استصلاح الأراضي فخط أرضاً في وادي حنيفة بمنطقة الرياض وحفر بئراً فاستصلحها، وتملك أرضاً في القصيم فزرعها، ثم أُوكل إليه بعض مشاريع التخطيط الحضري لمدينة الرياض، ووسع الله له في الرزق ورزقه بعدد وفير من الذرية من عدة زوجات، حتى توفاه الله في آخر ربيع الثاني سنة 1426 (7 يونيو 2005م) عن نيفٍ وثمانين عاماً.[4] نستعرض أدناه موقفين من مواقف عبدالرحمن الأحمد العديدة في الشهامة والتضحية.  

موقف مع الشيخ سعود بن رشود   

الشيخ سعود بن محمد بن رشود من قضاة الدولة السعودية المشهود لهم بالنزاهة والكفاءة والعدالة، وُلد بلدة ليلى في الافلاج في سنة 1322، وتولى القضاء في وادي الدواسر، ثم في مدينة الرياض من سنة 1367  وحتى وفاته في 17 شوال سنة 1373.[5] وفي أحد الأيام كان جالساً للقضاء في مكتبٍ بالسوق، فدخل عليه عبدالرحمن الأحمد مع أحد التجار لتسديد دين كان عليه للتاجر، وقيمته سبعمائة ريال، وهو قسط من ألف وأربعمئة ريال كانت عليه، وقد دبر عبدالرحمن المبلغ بصعوبة حيث كان التاجر يهدده بالسجن. وفي تلك الأثناء وقبل مباشرة الصلح دخل شابٌ صغير مخفوراً في حالة مزريةٍ حيث كان متهماً بالسرقة بمبلغ سبعمائة ريال، وأخبر الشيخ أنه قد اعترف بالسرقة بسبب الضرب الذي تعرض به، وكشف عن ظهره فإذا هو دامٍ من الجراح، والمبلغ المفقود هو نفس المبلغ الذي جهزه عبدالرحمن لسداد الدين، تأثر عبدالرحمن من منظر الشاب وعرف بحدسه أنه سرق بسبب الفاقة والحاجة، فقال للشيخ ابن رشود:

"لو دفعت المبلغ تخلون سبيله، قال نعم ولكن أنت سوف تسجن لعدم سداد الدين، فقال أنا لو سجنت لن أتعرض للتعذيب، ويخرجونني جماعتي، أما هذا الصبي يتعرض للضرب فأنا أفكه".

هنا أمام هذا الموقف المفاجئ تأثر الشيخ ابن رشود وطأطأ رأسه ودمعت عينه، وقال للحاضرين: انظروا لهذا الفعل فهل نحن في زمن الصحابة؟ فتنازل التاجر الدائن في حينه عن دينه وتنازل شريكه عن باقي المبلغ الذي على عبدالرحمن، وذهب الصبي إلى أهله[6][7].

يذكرنا مقال ابن رشود بالآية الكريمة التي تشير إلى الأنصار:

"ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فؤلئك هم المُفلحون".[8]

وقد تحقق وعد الله سبحانه وتعالى في تلك الحالة بصفةٍ مباشرةٍ، إذ حالما تحقق موقف الإيثار من عبدالرحمن الأحمد لصالح شابٍ لا يعرفه، ورق لحاله العصيب، حتى عوضه الله مافرج به كربته.

موقف مع البدو في سنة المجاعة

تعرض شمال المملكة العربية السعودية لموجة جفافٍ قاسية ابتداءً من سنة 1374 واشتدأت وطأتها سنة 1379 (1959-60م) فسميت سنة العظامية من كثرة ما نفق من الجمال وتناثرت عظامها، واستمرت حتى السنة التي تليها، وذلك في مناطق القريات وتبوك وتيماء ووادي السرحان. وقد فني معظم الدواب والمواشي والجمال لعدم وجود عشب تتغذى عليه، وشرع كثيرٌ من أهل البادية في التنقل من مكانٍ إلى آخر بحثاً عن أسباب الحياة. وبلغ من شدة المجاعة سنة 1379 أن أمر الملك سعود بإرسال قوافل من السيارات لإغاثة أهل الشمال، فأدركتهم وهم في اشد الضيق والفاقة.[9]

وفي ذلك الوقت وفي سنة 1377ه(1958م) كان عبدالرحمن الأحمد قد بسط الله له في الرزق واغتنى، ومما تملكه من عقاراتٍ ومزارع مزرعة في القصيم وفيرة المحصول من القمح، وهي في البطين وتسمى "مرين" كانت للأمير فيصل بن فهد بن فرحان، وأحياها الوالد عبدالرحمن بإذنٍ منه . وكانت قوافل البدو من أهل الشمال تتجول في المنطقة بحثاً عن الطعام لهم ولجمالهم، فمر جماعةٌ منهم بمزرعته، واشتكوا له الجدب وطلبوا منه المعونة، فسألهم عن قبيلتهم والبلاد التي وفدوا منها، وتعرف على ضائقتهم فاستضافهم في أرضه. يقول ابنه الأكبر أحمد أنه وجد من الجلود التي ذبحها لهم من الغنم عدد ثلاثمائة وستين جلداً عدا المفقود.[10] وأمن الوالد عبدالرحمن لهم جميع احتياجاتهم من الماء والزرع، وأعطى لكل أسرةٍ منهم شاةً ليمنحونها طيلة مقامهم عنده. وبعد انتهاء فصل الصيف وهطول المطر حملهم بما يحتاجون من القمح ورجعوا إلى ديارهم شاكرين.[11] وضرب عبدالرحمن بذلك مثلاً من مثلة التكافل والتراحم بين المسلمين والتصدق على أبناء السبيل. 

وكتبه

 أ.د. عماد محمد العتيقي

محرم 1444- أغسطس 2023م


الهوامش:

[1] متفقٌ عليه، صحيح البخاري 1/ 307 رقم 2486. صحيح مسلم 4/ 1944 رقم 2500.

[2] يوسف بن عيسى القناعي "صفحات من تاريخ الكويت"، ط5، ذات السلاسل، 1986م، ص…

[3] أصل هذا البيت من حرمة والزلفي في سدير، ثم انتقل آباؤهم إلى بلد القرينة في الشعيب ومدينة الرياض في نَجد، وآل أحمد من فرع عتيق العتيقي. انظر: عماد محمد العتيقي "وثائق العتيقي"، جداول للنشر، بيروت، 2022م، الوثائق رقم 3 و17 و26.

[4] نقلاً عن أولاد المشار إليه.

[5] عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ "مشاهير علماء نجد وغيرهم"، دار اليمامة للبحوث والنشر، ط2، 1394، ص 384-386.

[6] مخطوط بخط عبدالمحسن بن عبدالرحمن بن عبدالله الأحمد.

[7] رواية شفوية من فواز عبدالرحمن الأحمد.

[8] سورة الحشر، آية 9.

[9] بدر الجبل "من ذاكرة السعودية: قصة سنة "العظامية" التي اجتاحت شمال السعودية"، صحيفة سبق الألكترونية، 8 يونيو 2017م.

[10] أحمد عبدالرحمن الأحمد، إفادة خاصة بتاريخ 11 أغسطس 2023.

[11] عبدالمحسن بن عبدالرحمن الأحمد، مرجع سبق ذكره، وإفادة من السيد فواز بن عبدالرحمن الأحمد.

Loading