المولد والنشأة
هي منيرة بنت عبد الرحمن بن صالح بن سيف بن حمد بن محمد العتيقي، المولودة في دولة الكويت في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري تقريباً (ما قبل: 1250هـ/1834م) ولادةً تتفيَّأ بها ظلال أسرتها الوارفة وتنعم بمكانتهم الاجتماعية والدينية المستقرة حيث ارتبطوا بالعلوم الإسلامية ارتباطاً تليداً مؤصَّلاً، واعتنوا بوسائلها ومقاصدها بذلاً وطلباً، تعلماً وتعليماً. واعتُبر ذووها من الفقهاء والعلماء الأجلاء الذين لم تغفل فضائلهم الكتب والأسفار.[1]
ونشأت منيرة العبدالرحمن العتيقي في كنف أسرتها العريقة بتاريخها التعليمي والتربوي، وتمتَّعت برعاية عمومةٍ وخؤولةٍ طيِّبةٍ كريمة ما شاء الله لها أن تتمتّع، غَذَوْها صغيرةً بلبان العلم والأدب وأسقوها العفة والطهارة؛ فأنبتها الله تعالى نباتاً حسناً من فضله؛ وإنما الفضلُ "
فَضْلُ اللهِ يؤتيه مَنْ يشاءُ والله ذو الفَضْلِ العظيم"
[الجمعة:4] حتى ارتوت من ذلك فصارت ريّانةً من الفضائل متضلعة من طيب الشمائل، ودرَجَتْ خيرَ ناشئةٍ قد تمَّ بدرُها وأينع ثمرها ما بين ملاحظة العمومة (أي:آل الشيخ صالح) والخؤولة (أي:آل الحاج سيف).
– آل الشيخ صالح:
تنتمي المحسنة العابدة إلى فرع بيتٍ كريم؛ ذرية "
الشيخ صالح بن سيف العتيقي"
. الذي ربَّى أبناءه على التقوى فأحسن تربيتهم، فلم ينقطعوا عن العلم والعبادة لبيعهم أو تجارتهم مهما كانت ربيحة، محافظين على ما كان إرثـاً لهم من التدين عن أبيهم؛ كما قال عن نفسه: "
إرثٌ لهُ فيما مَضَى عن والِد"
[2] وعلى ذلك سار الأبناء النجباء يقتفون خطى الآباء في طريق التعليم والتربية.[3] ولم يهملوا نصيبهم من الدنيا فقد برعوا في صنوف المتاجرات والبيوعات غير كانزين أموالهم، حيث تعلقوا بهمة البذل والعطاء الخيري فلم يكد يخلو فرعٌ من أفرع ذرية "
آل الشيخ صالح"
من وقفٍ مؤبَّد في سبيل الله يبتغون به مرضاة الله.
فهذا ابنُ "
عمها عبد الله"
: عبد اللطيف بن عبد الله بن الشيخ صالح له وقفٌ في سوق الكويت، وتلك ابنة "
عمها عبد العزيز"
: حصة بنت عبد العزيز بن الشيخ صالح لها بيتٌ موقوف في سبيل الله، وأيضاً لأبيها عبد الرحمن بن الشيخ صالح وقفٌ قريب من مسجد سوق الكويت الذي أسسه آل رزق.[4]
– آل الحاج سيف بن حمد:
واتصلت المصونة بخؤولةٍ كريمة في بيت "
آل سيف العتيقي"
، المعروفين قديماً في بلد الكويت باحتراف التجارة وحسن إدارة المال وإنمائه، وإنفاقه في وجوه الإحسان والبر، حيث كان جدُّها لأمها لولوة "
الحاج سيف بن حمد بن سيف العتيقي"
من أهل التجارات القديمة في الكويت التي زاولها منذ عهد الحاكم الثاني "
الشيخ عبد الله بن صباح"
. وللحاج سيف وقفٌ هو دكانه المعروف حتى اليوم بدرِّه الريعي في وجوه الخير. وقد احتذى به أبناؤه الكرام حيث اشترك خالها محمد بن الحاج سيف العتيقي مع أبيها عبد الرحمن بن صالح العتيقي في وقف دكان بسوق الكويت.[5] أما خالها عبد الله بن الحاج سيف العتيقي فقد أصهر إلى بيت عبد الرحمن بن الشيخ صالح العتيقي بمصاهرة لها أثرها البالغ في مستقبل هذه الفتاة المحسنة، حيث تزوج خالُ منيرة بأختها "
من جهة الأب"
: عائشة بنت عبد الرحمن العتيقي وهي ابنة أبيها الكبرى وأختٌ غير شقيقة لمنيرة، فأصبحت منيرة بذلك خالةً لذرية عبد الله السيف العتيقي وهو خالٌ لها.[6]
لقد نشأت منيرة بين هذه الأكناف من أسرتها في الكويت، وحظيت بكامل رعايتهم وآوتْ إلى ركنهم الشديد، فهم المعروفون بمحلتهم الشهيرة ودواوينهم العامرة بالضيوف ودكاكينهم التجارية النشطة بمدينة الكويت؛ ولقد كانت الكويت في تلك الفترة تعيش حالة من الرخاء والنموِّ المطرد في التجارة والعمران، نظراً للاستقرار في الأوضاع السياسية الذي شهدته المنطقة آنذاك؛ فترة حكم الحاكم الثالث: "
الشيخ جابر بن صباح"
وخلفائه. مما مكّنَ لكثيرين من أصحاب رؤوس الأموال والموسرين: من تنمية ماليَّتهم في شتى أنواع التجارات البحرية والبرية. وأخذ أعيان آل العتيقي من ذلك بحظهم الوافر.
الرحلة إلى رحاب مكـة
ولما كان مستقراً في نفوس أسرة "
العابدة منيرة العبدالرحمن العتيقي"
حبُّ الديار المكيَّة والعلمُ بما لمجاورة بيت الله الحرام من الفضائل الدينية والاستحبابات الشرعية والأجور المضاعفة؛ أكثروا التردد إلى الديار المقدسة والبلاد الآمنة وشدوا رحالهم من الكويت قاصدين نحو بيت الله الحرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"
لا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"
رواه أبو داود وابن ماجه
طالبين من تلك الأجواء الإيمانية والبيئة الروحانية: القربة والطاعة حيث إنَّ الصلاة بالمسجد الحرام تعدلُ مائة ألف صلاةٍ في غيره من المساجد. وإنه لخير مكان ينقطع فيه المرء للتعبد والصلاة ويتربَّى في أكناف الذاكرين فيكون مع القرآن تلاوةً وحفظاً وتدبراً، ويتعلم ما شاء الله له من علوم الحديث النبوي والفقه مستفيداً من مجالس الذكر، كذلك كان نصيب منيرة العبد الرحمن من تلك الأجواء النقيّة الصافية.
كما اكتسبت هذه البقاع المباركة لموقعها المتميز: أهميةً معاشية كبيرة فقد أصبحت مكة مركزاً تجارياً عظيماً في وسط العالم الإسلامي، فهي البلد المفتوح للكسب والتجارة بمساعدة حركة الحجيج والمعتمرين يحملون معهم بضائعهم وسلعهم ليشهدوا منافع لهم، قال تعالى:
"
يُجْبَى إليه ثمراتُ كلِّ شيءٍ رزقاً من لدنَّا"
[القصص: 57]
وبمرور القرون وتوالي الوفود من حجيج بيت الله مع أمن الطرق: تمهَّر ساكنو مكة في فنون التجارة ونمت رؤوس أموالهم بعد أن زكت بالصدقة والبر والإحسان، فلموقع مكة أهمية جغرافية بالغة الأهمية والخطورة.
ولم تمنع أسرة آل عبد الرحمن العتيقي نفسها من الكسب الحلال والرزق الحسن، ولا غرو فهم الأبرار من التجار الصادقون، لا غرابة أن خاضوا غمار التجارة وأربح الله بيعهم أيما ربح، وهكذا أصبحت منيرة العبد الرحمن العتيقي خليقةً بتكوين ثروتها الخاصة وملكيتها الشخصية وجديرةً بالاستقلال المادي عن ذويها.
وبذلك كانت إقامتها بمكة المكرمة -شرَّفها الله- قد جمعتْ لها بين خيري الدنيا والآخرة، فأصابت ذخيرتها من المعاد والمعاش في وقت واحد، وأخذت من كل شيء أحسنه وأحلاه.

النزول في شعب عامر
وقد تخيرت أسرتها النازحة من الكويت أن ينزلوا في "
شعب ابن عامر"
بجوار الكثير من البيوتات المكية الكريمة، حيث طاب لهم المكان والجوار، فاشترت والدتها المصونة: لولوة بنت الحاج سيف العتيقي بيتاً واسعاً في ذلك الحي، واتخذته لها ولأسرتها مستقراً وسكناً، واعتبرته مهاجَراً لها وجواراً لبيت الله الحرام. وأعدَّت منه مضافاً لينزله ذوي قرابتها من أهل الكويت عند زيارتهم مكة المكرمة ليقضوا مناسكهم من الحج والعمرة.
ونلاحظ عدداً لا بأس به من الأسر المهاجرة التي نزلتْ "
شعب عامر"
بجوار إخوتهم وجيرانهم الحجازيين، فمن بعض أسماء قاطني ذلك الحي: (أسرة الحكمي، وأسرة النقيطي، وأسرة النويصر، وأسرة الضبيبان، وأسرة الصنيع، وأسرة سمسم، وأسرة أبو سليمان، وأسرة النشار) وغيرهم.[7]
وبعد استقرار أسرتها بسنين كانت منيرة العبد الرحمن قد أخذت وتطبَّعت من أهلها بعادة حبِّ بيت الله الحرام، فأرادت أن يكون لها مقر دائم وجوار للحرم المقدس، اقتداء بذويها وتقرباً من الأرض التي بارك الله فيها، فاختارت أرضاً مجاورة لبيت أهلها بمكة المكرمة، وبالتحديد في "
شِعب ابن عامر"
قرب بئر الحمام، واشترتها من مالها الخاص. ثم بنت على هذه الأرض بيتاً وديواناً وما يلزمهما من منافع، وذلك عام (1277 هجرية 1860م)، ليكون هذا البيت مستقراً لها بعد وفاة زوجها الثاني.
زواجهـا
وحيث إن منيرة قد نشأت منذ صغرها بجوار بيت الله الحرام، عفيفة كريمة ذات علمٍ وأدب ونَسَبٍ وحَسَب؛ فكان ان ظفر بخطبتها وتزوجها أحد أشراف مكة من بيت الحكم، ولم يكتب لهذا الزواج الاستمرار فتزوجت من بعده أحد شيوخ العشائر القبلية ومن الأعيان في أهل مكة المكرمة حتى توفي رحمه الله عنها.[8] ثم تزوجت رحمها الله بعد ذلك من السيد محمد بن على بن عبدالرحمن المضايفي العدواني، الذي ينتمي إلى عائلة وثيقة الصلة بأشراف مكة المكرمة، حيث ترتبط أسرته برحم ومصاهرة مع أسرة الشريف غالب ابن مسعود، و كان الشيخ محمد بن علي المضايفي زوج منيرة من الوجهاء الذين يقومون بمهمات السفارة إذ حفظت الوثائق العثمانية له توجه إلى منطقة عسير لنقل رسالة لشيوخها سنة 1272 هجرية (1856م)، وكان والده وعمه عثمان المضايفي من وجهاء مكة المكرمة أيضاً ومن الرؤساء ذوي المواقف التاريخية المعروفة.[9]
ديوان (العتيقي بَيْگم) ومنتدى الحجاج
كانت المرحومة منيرة العتيقي ذات ضيافة وكرم، وصولة للرحم والأقارب. قد كسبت محبة الناس بما تبذله من أشكال البر والخيرات، فكانت تقوم بضيافة الحجاج وقِرَى الزوار من أقاربها وضيوفهم الذين يأتون من الكويت ونجد فينزلون في عزلة مخصصة لذلك، ويلقون في رحابها كل إكرامٍ وتفانٍ في خدمتهم. ولم تسقط حق المكيين من كرمها وجودها أبداً؛ حيث كانت الدِّكاك (المقاعد المبنية) الخارجية المحيطة بجدار منزلها تفرش في صباح المناسبات والأعياد للضيوف، ويكون بيتها ملتقى للوجهاء والأعيان من أهل مكة. يأتونه تلك الأيام ويطوف عليهم العبيد والخدم قائمين بحق الضيف، يدورون بضيافة القهوة والشاي والأطعمة الحجازية فيتحدثون فيما يهمهم من الأمور. حتى إذا ما انتهوا من مجلسهم انصرفوا لشؤونهم، وهي لا تكلم أحداً منهم إلا من وراء حجاب على عادة أهل مكة قديما من الستر والتخدير لنساء البيوتات، فكيف بوجيهة مثلها.
واشتهر بيتها بلقبٍ يليق بمثل مكانتها ممن خُلع عليهم خلعة السيادة والتوقير؛ فهو بيت الوجيهة المحترمة (العتيقي بَيْگم) لما كان للمترجم لها من منزلة عالية في النفوس ومحبة عظيمة في قلوب الناس. ومن الشائع في ذلك الوقت استعمال الألقاب العثمانية بين الطبقات الأرستقراطية في ظل حكم الأشراف بالحجاز، والذي حفظته الوثائق لنا التنصيص على إطلاق لقب: (Begum) عليها وعلى والدتها لولوة بنت سيف العتيقي.[10] وهو لقب عثماني الأصل يطلق على النساء ذوات الحسب والنسب من باب الاحترام والتكريم، وما زال مستخدما اليوم في بعض دول آسيا.[11]

ومما حفظته لنا وثائق الأسرة أيضاً زيارات ودٍّ وتواصل لديوان ضيافتها المكي من خالها: عبدالله بن الحاج سيف العتيقي عند نزوله للبلد الحرام، وكان في بعض هذه الجلسات و الزيارات يستقبل معارفه النجديين في الحجاز مثل: محمد بن عبدالله بن حمد ابن عيسى الذي أمَّن عنده أمانة في مكة المكرمة ليأخذها معه الكويت.[12]
وقفها الخيري بمكة المكرمة
ليس غريباً على امرأة صالحة نشأت في بيئة طيبة، وتعرضت لنفحات كتاب الله الكريم، وسبحت في معانيه العظيمة، أن تتشرب معاني الإحسان، وأن تعلم ثواب المحسنين وجزاء المنفقين، وما أعده الله تعالى لهم في الجنات من أجر عظيم. وقد أدركت رحمها الله ثواب الوقف وجزاء الواقفين.
فاختارت أرضها في شِعبِ ابن عامر بمكة المكرمة عام 1277 هجرية، التي أنشأت عليها: "
مباني وحَوْشاً وديواناً وقاعة ومنافع وعزلتين"
، فأوقفت هذا المبنى بالكامل لله تعالى، على خيرات وأضاحي للفقراء والمساكين. ولما أرادت منيرة أن توصي بوقف خيري لعقارها الكائن في مكة المكرمة، ولكونها مخدرة لا تختلط بالرجال لزم أن يرسل لها الحاكم الشرعي في ذلك الوقت مأذوناً شرعياً نيابة عنه، ليسمع الوصية المطلوبة ويوثق ما جاء فيها، تمهيداً لوضعها محل التنفيذ حتى تكون حجة شرعية نافذة إلى أبد الآبدين ما شاء الله تعالى ذلك.
وقد كان انتقال المأذون إلى بيت منيرة لسماع حجة الوقف يدل على الوجاهة التي كانت تتمتع بها منيرة العبد الرحمن العتيقي حيث كان يؤتى إليها بالموثق ولا تطالب بالإتيان لمجلس التوثيق الشرعي، كما جاء في صدر الوثيقة معللا ذلك بأنها كانت مخدرة لا تختلط بالرجال، فهي من النساء المصونات اللواتي ليس لهن اختلاط بالرجال كما كانت سنة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
وتفيد الحجية الشرعية الصادرة في مكة المكرمة المؤرخة في التاسع عشر من ربيع الثاني 1306 هجرية والموثقة من قبل محاكم المملكة العربية السعودية أن المأذون الشرعي الشيخ سليمان أفندي بن الشيخ أسعد قناص (وهو الموثّق الشرعي المعروف: بباش كاتب المحكمة) قد انتقل إلى بيت المصونة منيرة لسماع إقراراها بالوقف المشار إليه، فقد جاء في النص:
"
فغبَّ وصول المأذون المذكور إلى منزل المصونة منيرة بنت المرحوم الشيخ عبدالرحمن بن صالح العتيقي الكويتي المذكورة وحضورها لديه عَرَّفَ بذاتها العارفان بها عيناً واسماً ونسباً المعرفة الشرعية وهما: المكرمان الشيخ صالح والشيخ أحمد ولدي: الشيخ محمد بن أحمد العامودي. غِبَّ حضورهما وتعريف ذاتها لدى الأمين المذكور أقرت المصونة بنت المرحوم الشيخ عبدالرحمن بن صالح العتيقي الكويتي المذكورة بين يدي الشيخ سليمان أفندي المذكور .."
مضمونه أنه حضر للتعريف بالموصية المكرمان الشيخ أحمد والشيخ صالح ابنا الشيخ محمد بن أحمد العامودي، وهما العارفان بها عيناً واسماً ونسباً المعرفة الشرعية النافية للجهالة. ولا شك أن هذين الرجلين اللذين ينتسبان إلى نفس الحي من قريش الذي تنتسب إليه منيرة كانا من العدالة بحيث تم استدعاؤهما لذلك التعريف. ويلاحظ الحرص على تكرار نسبة (الكويتي) دفعا للتشابه وتمييزاً عمن يحمل اسماً مشابهاً للقبها أو نسبها من أهل المنطقة الحجازية. ويفيد السياق هنا أن إطلاق لقب الشيخ على عبدالرحمن والد منيرة وعلى المعرَّفين العاموديين كان لإثبات الشيخية الاجتماعية،[13] تكرر التعريف بهذا اللفظ في سائر المحرَّر الشرعي الذي أثبته الموثق الشيخ سليمان أفندي بن أسعد قناص. ثم رفعه الموثق إلى نائب الحاكم الشرعي فأثبت ذلك كله. ثم رفع المحضر إلى الحاكم الشرعي فأثبته بختمه في 19 ربيع الثاني سنة 1306 هجرية الموافق: (1888م).
وهذا الحكم الشرعي تم نقله من السجل وتصديقه من رئيس محاكم المملكة العربية السعودية بمكة المكرمة وهو النص المصور بعضه أدناه.

ويتضح من حجة الوقف الأصلية المنقول بعضها أعلاه مدى العلم الشرعي الذي تمتعت به الواقفة والدقة التي كانت تتمتع بها المرحومة منيرة العتيقي في ذكر جميع التفاصيل الخاصة بالموقوف، وصفته ومتعلقاته، ووجوه الانتفاع به، وعلى وجه الخصوص برها بوالديها وزوجها في الصدقة والأضحية عنهم، بالإضافة إلى إحسانها للفقراء وتشجيع حملة القرآن. وقد قامت المرحومة منيرة بالنظارة على الوقف المذكور مدة حياتها، ثم من بعدها قام بالأمر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سيف العتيقي حتى توفاه الله تعالى. وتولى من بعده ابنه المرحوم عبد اللطيف العتيقي. ويقوم اليوم الدكتور صلاح بن عبد اللطيف العتيقي بمتابعة مصالح هذا الوقف.
ومن الجدير بالذكر أن مساحة العقار الأصلية كانت 214 متراً مربعاً، تم اقتطاع جزء منه من أجل التنظيم البلدي، وتبقّى منه جزء على شكل مثلث بمساحة 146م2. وهناك رباط معروف في أدبيات مكة المكرمة باسم "
رباط الكويت"
في حي بني عامر يدل وصفه على أنه ذات الوقف، حيث أنه صار رباطاً لطلبة العلم الشرعي والحجاج الكويتيين القادمين للعبادة والدراسة (حسين عبد العزيز شافعي: الأربطة بمكة المكرمة في العهد العثماني).
وقام مسؤول شرعي معين من قبل حكومة الكويت هو المرحوم عبد الله بن أحمد الزواوي بتسوير الجزء المتبقي لأجل المحافظة على الوقف.
الوقف على مواليها وذراري المعتقين
لقد تشوَّفَ الشارع إلى تحرير الرقاب وجعل في ذلك الأجور العظيمة، وقد كان لمنيرة العبد الرحمن عددٌ من الرقيق والجواري والخدم فقامت بعتقهم ابتغاء لوجه الله تعالى، وأحسنت فيما بعد ذلك إلى مواليها بالعطايا والهدايا والوصايا. فبعد أن أوصت منيرة بوقف عقارها المشار إليه آنفاً، شرعت في إحسان آخر هو وقف العزلتين الواقعتين شمال العقار الأول على معاتيقها وذرياتهم واشترطت عند فنائهم وانقطاع ذريتهم بتحويل الوقف على أقاربها الكويتيين وذرياتهم خشية على ضياع الوقف. فقد جاء في وثيقة شرعية صادرة من محاكم مكة المكرمة ومؤرخة في العاشر من جمادى الأولى سنة 1306 هجرية ما يفيد أن منيرة العتيقي أوقفت العزلتين المذكورتين بما فيهما من أبنية ومرافق، على معاتيقها وذرياتهم الذكور والإناث، فإذا انقطعوا ولم يبق منهم أحد: يوقف العقار على ابن أختها محمد بن عبد الله بن سيف العتيقي، ومن بعده على ورثته. وجعلت الناظر عليها أحد معاتيقها، ثم من بعده على ابن أختها المذكور وخلفائه. ويدل هذا الوقف على الحس الخيري الرفيع، وإرادة الإحسان العظيمة لدى الواقفة رحمها الله تعالى.
حليها وزينتها من المجوهرات والمصوغات
إنَّ فيما ورَّثته الوجيهة منيرة أموالاً وخيراً كان قد انتفع به مدة حياتها الفقراء قبل الأغنياء والضيوف قبل أرباب المنازل، فهل نسيت منيرة العبد الرحمن نصيبها من الدنيا بسبب ما تغدقه على المحتاجين؟ الحقُّ أنه لم يكن تعبدها وتنسكها رهبانيةً منعزلة عن الحياة وزينتها، وليس الزهد أن تكون متبذلة بالأسمال! وألا تتنعم بمتع الحياة وزهرتها..كلا؟! فقد كانت سيدة كريمة ابنة لقومٍ كرام لا تهمل حظها من التزين بصنوفات الحلي وأنواع المجوهرات كسائر النساء الموسرات، والزينة فطرة سماوية قد فطر الله تعالى عليها النساء قال تعالى:
"
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. قل هي للذين آمنوا خالصة يوم القيامة"
[الأعراف:32]
ولا تبديل لفطرة الله، سجَّلت لنا التوثيقات القديمة مسرداً فريداً وجميلاً لأسماء الحلي والمصاغ الذي كانت تلبسه نساء آل العتيقي قديماً، جاء هذا الكشف ضمن وثيقة شرعية بحصر ميراثها، وفيه:
(إبراة ألماس عدد 4 ثمنها 40 جنيه أفرنجي، عنبرة شاه عدد 2 ثمنها 30 جنيه أفرنجي، عقدين لؤلؤ ثمنها 40 جنيه أفرنجي، سنيَّة ألماس مفصَّصة ثمنها 150 جنيه أفرنجي، شميلة ذهب ثمنها 60 جنيه أفرنجي، سوار ذهب بفصوص ألماس ثمنها 25 جنيه أفرنجي، خواتم ذهب مفصَّصة زُمرُّد وياقوت ثمنهم 32 جنيه أفرنجي، حقو هندي بقلاقل فضَّة ثمنه 5 جنيه أفرنجي، خاتم ألماس ثمنه 20 جنيه أفرنجي، هياكل ذهب ثمنها 8 جنيه أفرنجي، لبة لؤلؤ مراديها ذهب وضماضمها لؤلؤ ثمنها 15 جنيه أفرنجي، عقبة ذهب ثمنه 20 جنيه أفرنجي. ومجموع ثمن المصاغ 445 جنيه افرنجي).[14]

خـاتمة
عاشت المحسنة منيرة العتيقي رحمها الله قرابة 75 عاماً، تقلبت فيها بين أوجه الخير المتعددة، ما بين الوقف الخيري وإكرام الحجاج وعتق الرقاب ورعاية حملة القرآن وصلة الرحم وإكرام الضيف … وبعد ذلك استجابت لنداء ربها تعالى:
"
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي"
[الفجر: 27-30]
وقد توفيت منيرة العتيقي سنة 1326 هجرية تقريباً الموافق: 1908م، رحمها الله تعالى برحمته الواسعة وتقبلها في عباده الصالحين الأبرار.
وكتبه:
أ.د عماد بن محمد العتيقي
في 17 جمادى الأول1431- أول مايو / 2010م- حدث في رجب 1437-أبريل 2016م.
الهوامش:
[1] لمعرفة تراجمهم تفصيلاً ينظر كتاب: "
السُّحُب الوابلة على ضرائح الحنابلة"
لمحمد بن عبد الله ابن حميد.
[2] شطر بيتٍ من مقطوعة شعرية للشيخ صالح العتيقي يقرّظ بها كتاب الشيخ محمد بن سلوم التميمي.
[3] قال الشيخ عبد الله البسام في كتابه علماء نجد خلال ثمانية قرون (563/5) في ترجمة الشيخ محمد بن سيف العتيقي: "
وهو من بيت علم عريق، فأبوه عالمٌ وأخوه الشيخ صالح بن سيف عالمٌ، وأبناءُ أخيه علماء، ولكل منهم ترجمة في هذا الكتاب."
اهـ.
[4] لمزيد من التفاصيل عن هذه الأوقاف فلتراجع ترجمة الشيخ صالح بن سيف العتيقي في قسم الشخصيات.
[5] راجع خزانة الوثائق في موقع ALateeqi.com. وثيقة رقم 13.
[6] ومن الألغاز اللطيفة المتداولة فيما بين ذرية آل الحاج سيف (البيت العود) قولهم: "
هي خالتنا.. وأمُّها عمتُنا، فمن تكون..؟"
، قلت: جوابه أن الخالة هي منيرة العبدالرحمن العتيقي والعمة هي لولوة السيف العتيقي.
[7] ينظر كتاب "
صدى الأيام ماذا؟ في حارات مكة"
(ص44) عبد الله محمد أبكر.
[8] وقد حفظت لنا الروايات المتصلة السند الكثير من التفصيلات الاجتماعية لزيجات منيرة المتعددة.
[9] كان عمُّه عثمان المضايفي وزيراً للشريف غالب وصهراً له، ثم قائداً من قادة الدولة السعودية الأولى، ووالياً على الحجاز. وأما والده علي المضايفي فكان قائداً من قادة الإمام محمد بن سعود في معارك عسير، وكذلك كان عمه الآخر سعود المضايفي العدواني. وقد استقرت رئاسة قبيلة عدوان في هذه الأسرة في الحجاز منذ مدة طويلة. انظر: "
نجد والحجاز في الوثائق العثمانية"
. سنان معروف أوغلو، دار الساقي، 2002م لندن.
[10] كما جاء في كشف مسلسل عن البيوت في شعب عامر بمكة، من وثائق البلدية/ أمانة مكة.
[11] كلمةBegüm: من ألقاب الاحترام والتقدير للنساء بمعنى: "
سيِّدتي"
، تنطق لفظاً بنحو: (بَيْكوم) وتكون في تعقيبة أسماء الأعلام من آخرها، يقابلها في الاستعمال للمذكر: كلمة (بيك). وقد شاع استخدامها كثيراً في الامبراطورية العثمانية بين طبقة النبلاء.
[12] عن وثيقة عدسانية (بروة بن عيسى) مؤرخة في 2 جمادى الأولى 1290هـ الموافق: 28 / 6 / 1873 م بتوثيق محمد بن عبد الله العدساني. من خزانة وثائق آل سيف العتيقي.
[13] أسرة العامودي أو العمودي (كما تكتب في الوقت الحالي) من الأسر الحضرمية الأصل. ووجودهم في مكة المكرمة قديم. من ذلك ما جاء عن الشيخ أحمد بن عمر العمودي عام 1219(1804م) في وثيقة عثمانية أنه من أعيان مكة المكرمة وإقرار السلطان العثماني أنه من نسل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (سهيل صابان: مداخل بعض أعلام الجزيرة العربية في الأرشيف العثماني).وتعريفهم والتقسيم الاجتماعي للأفراد "
من أشراف ومشايخ وقبائل وحاضرة"
وغير ذلك؛ أبرزُ ما يكون في حضرموت واليمن في الزمن السابق. والشيخية كمصطلحٍ لقبي: "
الشيخ"
كان يطلق في الحجاز -بالإضافة إلى العلماء وشيوخ القبائل- على الوجهاء الذين يتحدرون من أسر حسيبة نسيبة وبالذات على الأسر القرشية كالشيبي والطيار والعمودي والعتيقي وغيرهم. ما ذكرناه هنا لفائدة توضيح معنى النصوص القديمة دون أن نقصد تشجيع التقسيم الاجتماعي الطبقي؛ لأن الناس سواسية كأسنان المشط ويتفاضلون بميزان التقوى والعمل الصالح.
[14] الجنيه الافرنجي(الانجليزي) كان العملة الرائجة في التجارة ذلك الوقت وكان يعادل 7 ريال نمساوي (ريال فرانسا) و15 ربية هندية تقريباً. لتقريب الصورة حول قيمة مخلفات منيرة من المصاغ فقط وهي 445 جنيه فإن هذا المبلغ يعادل 6675 ربية و3115 ريال فرانسا. وكانت البيوت العامرة تباع في حياة منيرة بمبالغ لا تزيد على ألف ربية في الكويت و لا تزيد على مائة ريال في قرى نجد!