مقدِّمة

 نشأت الكويتُ كمجتمع تكافلي نشيطٌ رجالاته الأخيار، فحقَّقوا متطلبات الأمن المعيشي وقاوموا عوامل الفقر والحرمان بالممارسة العملية للصدقة والوقف والإحسان، متطلِّبين إكفاف المحتاجين وسدَّ خلَّتهم ما وَسِعَهم في ذلك الوسعُ والمالُ، وكان هذا النشاط الخيري من السمات البارزة "لفئة التجار الكويتيين" التي عرفوا بالنفقة الصالحة واشتهروا بها دون مَنٍّ ولا أذىً، مما هيَّأ الله تعالى به بيئةً صالحة للنمو المالي والازدهار التجاري حيث البارُّون الصادقون من أهل الأموال، ولعظمة المصداقية الدينية لصاحب الوثيقة هذه نراه مهتمًّا بإتمام (عملية المناقلة) وتوثيقها؛ رعاية لمصالح المعوزين والفقراء. مما يُتلمَّس من صنيعه جوانب الرحمة الإنسانية المهيمنة على فكر هذا التاجر الرحيم والفقيه الحنبلي، علماً بأنَّ الوثيقة المعروضة تكتسب أهمية تاريخية بالغة؛ لاعتبارات جمة: فهي من نوادر الوثائق العدسانية الصادرة في زمن الحاكم الثالث للكويت الشيخ جابر الأول[1] عن قاضيه الشيخ عبدالله بن محمد العدساني. ولأنها تفصِّلُ بعض المعلومات التاريخية عن الأوضاع الاقتصادية التي تلت فترة الطاعون الكبير(1830-1831م). كما أنها توضح حالة رائدة من مناقلة الوقف في مدينة الكويت من أحد كبار تجار الكويت في بدايات النمو الاقتصادي لها.

تنبيه: نظراً لاختلاف كتابة القاضي الموثق عن الرسم الإملائي المعاصر؛ فقد أثبتُّ رسم العبارات كما وردت، وجعلت التصحيح بعدها بين قوسين.

نصُّ الوثيقة

"الحمدُ لله سُبحانه.

صَدَرَ كما ذُكِرَ لديَّ وأمضيتُهُ وأنا العبدُ الفاني عبدُالله بن محمَّد العدساني.

هذا كتاب ناطقٌ مضمونه بذكر ما إنه لما ثبت بشهادة أرباب الخبرة وأصحاب الوقوف أنَّ "الدكان" المملوك لعبدالعزيز ابن حمد العتيقي؛ المحدود قبلةً الطريق النافذ، وجنوباً دكان لعقيلي (العُقَيلي)، وشرقاً دكان عبدالعزيز ابن مشاري، وشمالاً دكان عبدالرحمن ابن مفرج؛ أكثرُ نفعاً وأوفرُ قيمةً من "البيت"؛ المحدود قبلةً بيت عبدالعزيز المذكور، وجنوباً بيت مرت (امرأة) علي، وشمالاً الطريق النافذ، وشرقاً سكة السِّد، الذي هو وقف على أضحية وإطعاماً (إطعام). قد استبدل عبدالعزيز المذكور بالمخزن (المخزن) لمذكور (المذكور) بالمنزل الموقوف بإذن الحاكم الموقِّع أعلا (أعلى) هذا لكتاب(الكتاب) بتوقيعه المستطاب، استبدالاً وإبدالاً صحيحين شرعيين، فصار المنزل الوقف ملكاً لعبدالعزيز المزبور، وقد صار المخزن المملوك وقفاً لازماً، بحيث لا يجوز تبديله ولا تغييره، وقد وقع لاشهاد (الاشهاد) على هذا حتى لا يخفى.

جرا في 2 ذي القعدة سنة 1249 "

الوصف: وثيقة نقل وقف عقاري؛ وهو بيت من بيوته بمحلة العتيقي في مدينة الكويت.

المصدر: خزانة أسرة العتيقي (محمد خالد صالح العتيقي).

الواقف: الشيخ عبدالعزيز بن حمد بن سيف العتيقي.[2]

التاريخ: 2 ذي القعدة من 1249هـ الموافق: 13/3/1834م.

الموقوف عليه: أضحية للواقف وإطعام للفقراء.

موضوع الحجة: لما رأى الواقف الشيخ عبد العزيز العتيقي أن ريع البيت الموقوف يقلُّ في إدراره عن الوفاء بحاجات الموقوف عليهم، وأنه دون الوفرة المنشودة منه؛ ارتأى –وهو الجواد الكريم- أن يقوم باستبداله على سبيل المناقلة، والبدلُ دكانٌ هو أكثر منه منفعةً وأعلى سعراً وأوفر منه في الإدرار.

التحديد الجغرافي: يقع (المخزن) الموقوف في سوق الكويت، وهو محدودٌ جهة القبلة بالطريق النافذ، وجنوباً بدكان العقيلي، وشرقاً بدكان عبد العزيز بن المشاري، وشمال دكان عبد الرحمن بن مفرج، و(المنزل) المستبدل محدودٌ جهة القبلة "بيت الواقف" عبد العزيز العتيقي، وجنوباً بيت "امرأة علي"، وشمالاً بالطريق النافذ، وشرقاً بسكة السد.

الناظر: لم يحدد؛ لكون المناقلة تابعةً لوثيقة الوقف الأصلي(البيت)، ويفهم من السياق أن الواقف كان هو الناظر مدة حياته، ثم انتقلت النظارة لخلفائه حتى تاريخ التسجيل في دائرة الأوقاف (1970م).

الموثق: الشيخ عبد الله بن محمد العدساني. وتمام النسب من والده: الشيخ محمد بن الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن مبارك بن محمد بن مبارك بن محمد بن حسين بن علي بن إبراهيم العدساني[3]

الأختام: ختم القاضي الموثق الشيخ عبد الله بن محمد العدساني.[4] وتأشيرة وزارة الأوقاف و الشئون الإسلامية بتسجيل الوقف برقم 162 في الوقف الأهلي بتاريخ 2/11/1970 بالكويت.

الشهود: لم يحدد النص شهود الإثبات، ولكن أثبت توقيعهم على الشهادة في ورقة أخرى بما يدل على كثرتهم. ولا يستبعد أن يكون منهم أصحاب الدكاكين المجاورة للوقف مثل عبد العزيز المشاري وعبد الرحمن المفرج فهم أقرب إلى المعرفة بأحوال الدكان.

الكاتب: الشيخ عبد الله بن محمد العدساني وخطه مألوف.

الفوائد المستخرجة

1- الوثيقة شاهدة من شواهد الإحسان الكثيرة التي سجِّلتْ للمحسن الشيخ عبد العزيز العتيقي؛ فما بين بنائه وإعماره لبيت الله (المشتهر عرفاً بابن نبهان)، ووقف المكتبات العلمية العامة؛ النافعة لمحبي العلوم الشرعية والقرآنية في المجتمع الكويتي، وإضافة الضيوف المسافرين وإنزالهم في ديوانه الكبير وإكرامهم، وكفالة الدائنين غير القادرين على السداد، ووقف الأوقاف والنظارة عليها؛ ما بين ذلك كله يبرز هذا المثال "للإحسان الكويتي" بنوره المتوقد اللامع.  

2- استبدال الوقف عملية شرعية تنطوي على عقارين أحدهما وقف (البيت) والآخر حر (المخزن). وبإتمام الإبدال يتحول الوقف ملكاً ويتحول الحر وقفا. ويقتضي ذلك عادة شهادة أصحاب الخبرة والوقوف على المنفعة المادية والقيمة الحالية للعقارين وإقرارهم بتكافؤ العقارين في القيمة والمنفعة. أو زيادة قيمة العقار البديل عن الموقوف وهو ما حصل في هذه الحالة وأثبته الموثق دون التصريح بأسماء هؤلاء الخبراء. ومعنى ذلك أنه كان هناك عملية "تثمين عقاري" سبقت مجلس الشرع الذي صدر فيه الحكم.

3- جرت العادة أن يقع الاستبدال على يد القضاة لمرور زمن يعقل أن يكون سبباً لتعطل منافع الوقف إما لقِدَمٍ أو تهدُّمٍ، ووثيقتنا على خلاف مقتضى العادة الغالبة فالمستبدل هو الواقف نفسه؛ لما لمس حاجة الموقوف عليهم وأن الوقف الأصلي يقصر عن تلبيتها، فقام بزيادة الوقف باستبداله؛ وهذا لا نظير له وثائق الأوقاف الكويتية حسبما اطلعنا عليه، فوثيقة الشيخ عبد العزيز العتيقي هي أول استبدال وقفي يكون على حياة الواقف بل وبناءً على طلبه وعلى يده وببذلٍ منه.

4- أن هذه الوثيقة "مناقلة العتيقي" هي أقدمُ استبدال كويتي للوقف وصل إلينا العلمُ به حتى اليوم، ويتلوها في الأقدمية وثيقة استبدال وقف "رقية بنت الشيخ محمد العدساني" المؤرخة (15 جمادى الأولى 1298هـ) [الواردة في كتاب الدكتور عادل العبدالمغني الموسوم "وثائق الوقف الكويتي- دراسة تراثية" ص 33] وبالمقارنة بين الوثيقتين نستظهر جملةً من الفوائد العلمية؛ منها: أنَّ "القاضي محمد بن عبدالله العدساني" موثق الوقفية الأخيرة يلتزم صياغة والده الشيخ عبدالله لعقود المناقلة والاستبدال، وبالمقارنة نجد الصيغة موحَّدة تقريباً. ومنها المرجعية العلمية والتلمذة بين الشيخين العدسانيين حيث استفاد الابن من علم والده الفقهي وأسلوبه في التوثيق.

5- الوثيقة برهانٌ واضحٌ على "بُعد النظر" الفقهي الذي كان يتمتع به الشيخ الفقيه العتيقي، ولا يستغرب ذلك من عالم منتسبٍ لأصول مذهب الإمام أحمد؛ حيث تأصَّل في قراره التحرُّر العقلي من قيود الجمود، فذهب في استقصاء محلَّ المصلحة الشرعية وتطلبها، طارحاً عنه ما سوى ذلك.

6- يوضِّح النص بعض الأسر التجارية القديمة التي كانت في الكويت في محلة الوسط ذلك الوقت مثل "أسرة العُقيلي" و"أسرة المفرج" ممثلة بالتاجر عبد الرحمن وأسرة المشاري ممثلة بالتاجر عبد العزيز. أما "أسرة العتيقي" فكان يمثلها ذلك الوقت عددٌ من التجار مثل صاحبنا "الشيخ عبد العزيز بن حمد بن سيف" وأخويه: "الشيخ عبد الله بن حمد" الحنبلي الرحَّالة، و"الحاج سيف بن حمد" مؤسس بيت العود، و"عبد الرحمن بن عبدلله بن سيف" وأخوه "سيف بن عبد الله".

7- يستفاد من النص ومن وثائق أخرى أيضا موضع المخزن والبيت المناقل به الوقف فهو في حي الوسط بجوار بيت الواقف وديوانه. وعرفت هذه المنطقة لمدة طويلة بمحلة العتيقي. وقد ابتدأ استيطان أسرة العتيقي بها عندما نزلها سيف جد عبد العزيز المشار إليه في 1189(1175م) وذلك في عصر الحاكم الثاني عبد الله بن صباح.

8- توضح عملية مناقلة الوقف بعض الآثار الاقتصادية للطاعون الكبير الذي حصل حوالي سنة 1830-1831 م وقضى على معظم أهل الكويت والمناطق المجاورة وأحدث أضراراً جسيمةً في المجتمعات المنكوبة. "فالاستبدال الوقفي" جاء بعد ثلاث سنوات من الطاعون؛ بما يدل على تراجع إيرادات البيت وحالة من الركود الاقتصادي بسبب تقلص عدد السكان, الأمر الذي جعل الواقف ينقله للحفاظ على مصلحة الفقراء والمحتاجين الذين يكثرون في تلك الأوقات. وفي نفس الوقت لا يبدو أن الكساد قد أحاط بالبلاد بعد الطاعون فهناك سوق عامر ومخازن لأسر تجارية نشيطة مجاورة لهذا الدكان.

9- استخدم الموثق القاضي عبد الله العدساني لنفسه لقب "الحاكم" في إثبات سلطته على الإذن بنقل الوقف استجابة لطلب الواقف. وفي ذلك فائدة: هي إثبات التفويض الصادر له من حاكم الكويت الشيخ جابر الأول على القضاء الشرعي فصار وكيلا أو نائبا للحاكم، وهذه ألقاب قضائية متداولة وفق العرف السائد في ذلك الوقت. ولأهمية موضوع الحجة فإن الموثق حرص على إثبات صحة العقد في صدر الوثيقة فصدَّرها بقوله "صَدَرَ كما ذُكِرَ لديَّ وأمضيتُهُ".

أ.د. عماد محمد العتيقي

رجب 1432هـ الموافق يونيو 2011م


الهوامش:

[1] هو الشيخ جابر بن عبد الله بن صباح العتبي الحاكم الثالث للكويت. حكم بين 1229-1276 (1814-1850م). تميزت فترة حكمه بالاستقرار وتوسع العمران والتجارة. واشتهر بالسخاء حتى لقب بجابر العيش.

[2] الشيخ الحاج عبد العزيز بن حمد بن سيف بن حمد العتيقي التيمي القرشي الحنبلي: إنه فقيه الكويت الحنبلي، من أشهر تجار وقته وزمانه. يرجع نسب أسرة العتيقي الموثق إلى العتيق الصديق أبو بكر رضي الله عنه. ولد رحمه الله تقديراً في نهاية القرن الثاني عشر الهجري، من أعيان التجار في زمنه، عابدٌ عالمٌ حافظٌ لكتاب الله، لقِّبَ "بالحاج" لمداومته على النسكين الحج والعمرة. تقدَّرُ وفاته بسنة 1275 هجرية. وهو غير جدنا الشيخ عبد العزيز بن محمد العتيقي (1300- 1389هجرية) حيث التبس ذلك على بعض الكتاب. من أبرز أعماله الخيرية: وقف المكتبات العلمية، وتأسيسه أول مسجد معروف لآل عتيقي بمدينة الكويت القديمة بالقرب حالياً من سوق (بن دعيج، وقد عرف هذا المسجد باسم مؤذنه: (مسجد النبهان) واشتهر بذلك. تراجع ترجمته في كتاب "محسنون من بلدي" إصدار بيت الزكاة الجزء الثالث طبعة 2001.

[3] نسب القاضي العدساني أعلاه موثق بعضه بخط الشيخ محمد بن محمد العدساني في قيد تملك مؤرخ سنة 1186 وتكملته بخط جده الشيخ مبارك بن محمد بن مبارك العدساني في قيد نسخ لمخطوط شرح المنهاج للإمام النووي مؤرخ سنة 1093.وهو يطابق شجرة العدساني الموثقة المهداة من الأستاذ عبد الله بن محمد الدرويش العدساني بتاريخ 19/11/1430 هجرية.

[4] له ترجمة في:العتيقي، عماد"من علماء أسرة العدساني وقضاتهم" مجلة العرب: ج9 و10حزيران/تموز 2001. وانظر أيضا العدد ج7 و8 شباط/آذار 2005.

Loading