مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين. الوثيقة التي بين يدينا من نوادر وثائق الربع الأخير من القرن الثاني عشر (الثامن عشر الميلادي). فهي وثيقة تحكي عدة رحلات للشيخ سيف العتيقي في السنة الأخيرة من حياته، وتسجل تحركاته تسجيلاً دقيقاً مؤرخاً باليوم والشهر والسنة. وهي من نوادر المذكرات الشخصية الموثقة في ذلك الزمن. وغير ذلك فهي تؤرخ لأحداث تاريخية هامة في مناطق نجد والكويت والأحساء سوف نأتي عليها. ومن طريف ما يميزها أن المرأة تشغل حيزاً جوهرياً في اهتمام الموثق فهي موضوع النصين الأول والثالث من نصوص الوثيقة. وفيما يلي نستعرض نصوص الوثيقة ومن ثم نبدأ بتحليلها.

النص الأول
الحمدلله انتقلت الزوجةُ الصالحةُ فاطمة بنت إبراهيم بن عبدالرحمن زوجة سيف العتيقي على ولدٍ مات في بطنها في الكويت نهار ثامن صفر الخير الذي هو من شهور تسع وثمانين وألف ومية(مائة) من الهجرة النبوية. وفي ذلك الشهر هاجر زوجها سيف من نجد وهي معه والحمدلله.
النص الثاني
وقدم سيف المذكور الكويت نهار إحدى وعشرون أول المحرم سنة تسع وثمانون واستمر مرضه فيها من فضل الله إلى يوم ثمان وعشرون من جمادى الأول ثم سافر مع ابنه صالح أصلحه الله إلى الأحسى (الأحساء) وركبوا سفينةً إلى القطيفِ آخر ثمان وعشرين من جمادى الأول ولم يسيروا تلك الليلة فحصل ولام فقدموا القطيف نهار ثاني من جمادى الآخر. وقدم صالح على أبيه نهار ثمان وعشرين من ربيع الأول وأقام عند والده يرجوا بُرأَه ثم ساور(ساروا) ثمان وعشرين من ذلك الشهر المذكور فقدموا الأحسى(الأحساء) نهار اثنا وعشرون من جمادى الآخر فإذا بطين مقتول قتله أخوه سعدون وقد أهلك الرعية و الأحسى حتى قاتلهم هذا سبب قتله، فتشاوى(فتشافى) سيف حين قدم والحمدلله.
النص الثالث
انتقلت سلما بنت غلامي مبارك في الأحسى (الأحساء) إلى سعة رحمة الله نهار اثنين وعشرين يوم الأربعا (الأربعاء) نَفِسَه(نفساء) من شهر الله المحرم عاشوري من سنة تسعين وألف وماية من الهجرة النبوية.
الوصف: الوثيقة عبارة عن سجل أحداث اجتماعية متقاربة متعلقة بأشخاص من ذوي الاهتمام والقرابة للموثق.
المصدر: مخطوط رقم 155 من مكتبة المخطوطات الإسلامية التابعة لوزارة الأوقاف بالكويت، فللقائمين عليها الشكر على إتاحته للدراسة. والوثيقة هي قطعة من المخطوط تقع في القسم الأسفل من الورقة 12 منه.
الموثق: الشيخ سيف بن حمد العتيقي.[1]
التاريخ: الوثيقة تؤرخ لأحداث حصلت في السنوات 1189-1190 من الهجرة(1775-1776م). ويبدوا من نمط التوثيق أن نصوصها كتبت في أيام الحدث أو قريباً منها.
الفوائد المستخلصة
النص الأول:
1- تؤرخ الوثيقة لوفاة فاطمة بنت إبراهيم بن عبد الرحمن في الكويت. ولما كانت فاطمة زوجة صاحب المخطوط سيف العتيقي[2] فقد حرص على توثيق تاريخ وفاتها وهو الثامن من صفر سنة 1189(1775). ويفيد الموثق أن الوفاة حصلت خلال شهر من انتقال فاطمة وزوجها سيف من نجد إلى الكويت. والمعروف أن موطن سيف العتيقي بنجد كان في بلدة حرمة بإقليم سدير.
2- أبرز النص الأول بعض مآثر فاطمة زوجة سيف العتيقي. فمنها الوفاء المتبين من مرافقة زوجها في هجرته من نجد إلى الكويت رغم ما يحمل الانتقال من المشقة النفسية إذا اعتاد الإنسان على الإقامة في بلد لمدة طويلة، وفي حالتها زادت المشقة لكونها سافرت في فترة حمل. ومنها وصفه لها بالزوجة الصالحة ولا يخفى ما تنطوي عليه تلك العبارة من معاني. ومنها أنها انتقلت إلى الدار الآخرة بسبب ولد مات في بطنها وحازت بذلك فضيلة الشهادة.[3]
3- ويثير اختيار سيف العتيقي الكويت مقراً جديداً له بدلاً من الأحساء أو الزبير تساؤلات عن سبب اختيار الكويت بالذات. نقول أنه قد يكون هناك عدة أسباب لاختيار الكويت منها الاستقرار السياسي الذي تميزت به فترة حاكمها الشيخ عبدالله بن صباح العتبي (1762-1814م) مقارنة بالوضع في المناطق الأخرى، ومنها وجود احتياج لعالم يتولى إمامة مسجد حديث النشأة، ولا نستبعد أن يكون ذلك بترتيب من محمد بن حسين ابن رزق مؤسس مسجد السوق[4] الذي نزل سيف قريباً منه في الموضع الذي عرف لاحقاً بفريج العتيقي.
النص الثاني:
1- تأسيس بيت آلعتيقي في الكويت: قدم سيف العتيقي الكويت في 21 محرم سنة 1189. وبذلك يكون هذا التاريخ هو تاريخ تأسيس بيت العتيقي في الكويت. وقد تمت الإشارة إلى هذا البيت وبعض سكانه في عدد من الوثائق والمقالات نشر بعضها في موقع العتيقي. من هؤلاء إبراهيم بن سيف وعبد الرحمن بن سيف. ومن الأحفاد عبد الله وسيف وعبد العزيز أبناء حمد بن سيف، وعبد الرحمن وسيف أبناء عبد الله بن سيف. وموقع البيت مجاور للمدرسة المباركية من جهة الجنوب في حي الوسط، وهو النواة التي تكون منها فريج العتيقي لاحقاً. وقد أُضيف إلى هذا البيت مساحات ومرافق كثيرة مع مر السنين عرف معها بالبيت العود.
2- أصاب سيفاً مرض حال وصوله الكويت أو ربما أثناء سفره واستمر المرض في الكويت حتى 28 جمادى الأول من نفس السنة. فتكون مدة المرض أربعة شهور وأسبوع. ولما كان ولده صالح مقيماً بالأحساء فقد حضر لعيادة والده في الكويت وذلك يوم 28 ربيع الأول وأقام في بيت والده.
3- ركب سيف العتيقي مع ولده صالح سفينة يقصدون القطيف من الأحساء، وذلك مساء يوم 28 جمادى الأول بعد تحسن حالة سيف الصحية. ولم يسيروا تلك الليلة.
4- سارت السفينة في اليوم التالي 29 جمادى الأول حيث حصل "
ولام"
(ريح مساندة لاتجاه السفر). وفي هذه الحالة تكون الريح هبت من الشمال واستمرت إلى أن وصلوا الأحساء في اليوم الثاني والعشرين من جمادى الآخر، فتكون مدة السفر ثلاثة أسابيع.
5- حادثة مقتل بطين بن عريعر حاكم الأحساء: يؤرخ النص لحادثة تاريخية هامة، وهي أنه قبيل وصول سيف وابنه إلى الأحساء قُتل بُطَين حاكم الأحساء من بني خالد. وتضيف أنه قد قتله أخوه سعدون بسبب ظلم أوقعه على الرعية حتى أهلكهم وقاتلهم وبسبب ذلك هجم عليه أخوه فقتله.وتكمن أهمية هذا النص أنه كتب قريباً من الواقعة من قبلِ مراقبٍ من أهل البلد. وبذلك يمكن تنقيح المعلومات الواردة حول الموضوع والتي لا تتفق مصادرها مع هذا النص حول تاريخ الواقعة أو هوية القاتل حيث ورد أن سعدون ودجين ابني عريعر قتلا أخيهما بطين خنقاً في في سنة 1188.[5] ولكن هذا النص يختص بقتله سعدون بن عريعر (الصواب عرعر أما عريعر فهو تصغير اشتهر به) بالتاريخ المحدد وهو 22 جمادى الآخر 1189، ويسبب لقتله بظلمه الرعية والفساد الذي أحدثه. كما يثير النص تساؤلاً حول صحة ما ورد في المصادر التاريخية النجدية أن دجين أخو بطين تولى من بعده فترة قليلة ثم سممه أخوه سعدون واستولى على الحكم.[6] قلت فإذا كان سعدون هو الذي قتل بطين ماالذي يجعله يسلم الحكم إلى دجين ثم يغتاله بعد أسابيع؟
النص الثالث:
1- ينصب النص على تأريخ وفاة امرأة هي سلما بنت مبارك. ويعرف الموثق مبارك بغلامه أي مملوكه في لغة القوم،لأن مبارك إذا كان له ابنة بهذا العمر الذي تلد فيه لم يعد غلاماً بمعنى شاباً صغيراً. واختيار لفظ غلام للدلالة على المملوك فيه أدب رفيع وترفق بالشخص المنعوت لأنه لو قال عبدي أو مملوكي لكان فيها نوع من كسر لخاطره. وهنا فائدة بتعيين اسم غلام سيف وابنته وتأريخ وفاتها وسبب وفاتها وهو النفاس أي حمى ما بعد الولادة. وبذلك نالت المرأة سلما نوعاً من كرامة الشهادة بهذا النوع من الوفاة.
2- يلاحظ في استعارة الموثق لمعنى الوفاة في هذا النص بأنها انتقال إلى سعة رحمة الله دعوة ضمنية للمتوفاة بالرحمة، ورقي في العبارة مستمد من شمول النفساء في عداد الشهداء.[7]
3- وإذا كان توثيق وفاة امرأة حرة هي فاطمة في النص الأول غير مألوف في عادة ذلك الزمان، فإن توثيق وفاة امرأة مملوكة أشد ندرة وغرابة. ولا بد من وجود مناسبة مميزة لهذا التوثيق في مجموع يحتوي في الغالب على مسائل فقهية وقصص وعظية. نقول أنه لا بد أن مبارك وابنته كانا شخصين مميزين في بيت سيف حتى يحظيا بهذا الاهتمام حيث أن سيف قد أوقف عليهم بعض نخله في بلد حرمة في سدير. ومثل هذه البيوت الكبيرة لا بد أن يكون فيها كبير خدم ذو أدب ونشاط يتولى أمور الترتيب والخدمة. ومن هنا يمكن تصور أن مبارك كان يقوم بهذا الدور وأن ابنته سلما كانت تقوم بدور مشابه بالنسبة للنساء.
وعلى كل حال فإن هذه الوثيقة يستفاد منها رقي العاطفة الأسرية لدى هذا العالِم والمكانة اللائقة التي منحت للمرأة في بيت سيف العتيقي بما يتوافق مع تكريم الإسلام لها.
4- تصحيح تاريخ وفاة سيف العتيقي: بما أن آخر تاريخ ورد في النص هو 22 محرم 1190 وذلك بخط سيف ذاته، فإنه كان على قيد الحياة ذلك الوقت ولم يتوفى في 1189 كما جاء في كتاب السحب الوابلة وغيره من المراجع. ولكن ضعف الخط واهتزازه يوحي أن سيف لم يعمر طويلاً بعد ذلك.
د. عماد بن محمد العتيقي
شوال 1433- سبتمبر 2012
(تم التحديث في رجب 1438-إبريل 2017م)
الهوامش:
[1] رجح الشيخ عبد الله بن خلف الدحيان في هامش على المخطوط ذاته أن يكون الكاتب أحد أصحاب الشيخ محمد بن عبدالله ابن فيروز لأنه على حد تعبيره"
عليه نَفَسُه"
. والصفحة التي بين أيدينا هي بخط سيف العتيقي صاحب المخطوط حيث فيها إشارة إلى غلامه مبارك الذي انتقل معه من نجد. وله قيد تملك في آخره هبة لابنه محمد بن سيف.
[2] لمزيد من التفاصيل ينظر العتيقي، عماد "
من علماء أسرة آل عدساني و قضاتهم -3 مع نبذة عن قضاة دولة بني خالد في القرنين الحادي عشر و الثاني عشر"
العرب، العدد ج7 و8 شباط/آذار 2005.
[3] ورد ذكر المبطون ضمن الشهداء في حديث رواه أو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"
الشهداء خمسه: المبطون، والمطعون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله"
متفق عليه.
[4] أنتقل محمد بن حسين بن رزق من الكويت إلى الأحساء سنة 1188 وبعد أن أسس مسجد السوق. ينظر عثمان بن سند البصري "
سبائك العسجد في أخبار أحمد نجل رزق الأسعد"
ت 1242. مطبعة البيان بمبي 1315. وعدنان الرومي "
تاريخ مساجد الديرة القديمة"
.
[5] يعزى هذا الخبر إلى المصادر النجدية مثل الفاخري وابن لعبون. وقال ابن لعبون في حوادث 1188عن بطين بن عريعر"
سلط الله عليه أخويه دجين وسعدون واغتالوه وخنقوه في البيت"
. تاريخ الشيخ حمد بن محمد ابن لعبون بتحقيق الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله ابن لعبون. الكويت 1429-2008م. ص 509.
[6] ينظر على سبيل المثال تاريخ ابن لعبون. المصدر السابق ص 510. وابن لعبون لم يجزم بحادثة السم فقال "
قيل ابن سعدون سمه"
يقصد أخاه دجين، جاء ذلك ضمن حوادث 1188.
[7] ورد ذكر النفساء في عداد الشهداء في حديث رواه أبو داود بلفظ "
والمرأة تموت بجُمْع شهيدة"
. وهذا ما اختاره كثير من العلماء ووردت النفساء ضمن الشهداء في قصيدة أصناف الشهداء لمحمد ابن فيروز وصالح بن سيف العتيقي وهي منشورة في موقع العتيقي.