مقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين. لم يتوفر للباحثين أرشيفٌ منتظم لبعض السلالات الحاكمة في الجزيرة العربية ليكون مصدراً لتاريخها يوثق أحداثها بصورة منتظمة. من هذه السلالات بنو خالد حكام الأحساء سابقاً. من هنا تأتي أهمية الوثيقة التي بين يدينا وهي من نوادر وثائق الربع الأخير من القرن الثاني عشر(الثامن عشر الميلادي). فهي وثيقة حفظ لنا الشيخ سيف العتيقي نسخة عنها ضمن مجموع له، وهي تحكي العلاقة الوطيدة التي كانت الحسن بن هبة الله المكرمي صاحب نجران وبين بني خالد زعماء الأحساء. وهذه العلاقة وإن كانت معروفة في المصادر والمراجع التاريخية ولكن لم تتوفر عنها مراسلاتٌ بيد الباحثين رغم الإشارة إلى وجود مراسلات في التواريخ. إن وجود رسالة شخصية بين صاحب نجران وشيخ بني خالد دليلٌ مادي نادر على تلك العلاقة، وهو فوق ذلك توضيح وتأكيد لما كانت عليه تلك العلاقة من قوة ومتانة وما ترتب عليها من آثار. وغير ذلك فهي جاءت في خضم أحداث تاريخية هامة في مناطق نجد الأحساء مما يجعلها مصدراً مهماً من مصادر تلك الحقبة التي اتسمت بالصراع على النفوذ بين آل سعود حكام نجد من جهة، وبين بني خالد وحلفائهم من جهة أخرى. ولذلك نبدأ باستعراض السياق العام المحيط بتلك الفترة ثم نبدأ باستعراض الوثيقة.

السياق العام

 اتسمت الفترة السابقة على كتابة هذه الرسالة باشتداد الصراع ما بين آل سعود وخصومهم في نجد والأحساء. وكانت الدولة السعودية الأولى تحاول بسط سيطرتها على نجد وخاصة في منطقة العارض حيث تم لها الإطاحة بأقوى خصومها وهو دهام بن دواس أمير مدينة الرياض في عام 1187 (1773م).[1] وكان عليهم بعد ذلك مواجهة زعيم قوي آخر هو زيد بن زامل العائذي أمير الدلم في اليمامة والذي ناصبهم العداء. وقبل ذلك كان عرعر بن دجين الحميد أمير بني خالد يشن الغارات على آل سعود في العارض كما حصل في عام 1172 (1759م) في معركة الجبيلة والتي لم يفلح فيها، وكما حصل في 1178 (تبدأ في يوليو 1764م) عندما غزا الدرعية هو والحسن بن هبة الله المكرمي فردوه آل سعود وأهل البلد، وحاول عرعر أن يعيد الكرة في 1188 (1774م) ولكنه توفي قبل ذلك.[2]

السياق الخاص

 كانت مقاطعة نجران من المقاطعات الحدودية ما بين عسير واليمن الواقعة على مبتدأ طريق القوافل الخارجة من اليمن متجهة إلى الأحساء عن طريق نجد. وهي بذلك تحتل موقعاً جغرافياً هاماً يربط ما بين مبتدأ هذا الطريق ومنتهاه بروابط تجارية ومصالح مشتركة. ومن أهم المحطات في ذلك الطريق وادي الدواسر على بعد ثماني مراحل من نجران ثم اليمامة والتي تؤدي إلى الأحساء شرقاً (أنظر الخرائط).

وكانت إمارة نجران في فترة الدراسة تخضع لاسماعيل بن هبة الله المكرمي وخليفته أخوه الحسن. وهؤلاء كانو يتمتعون باحترام جيرانهم من أمراء عسير في الشمال واليمن في الجنوب. حتى إن الحسن بن هبةالله شن حرباً ضروساً في عام 1184 (1770م) على الشريف محمد بن أحمد الخيراتي أمير المخلاف السليماني في حرض وأبو عريش من بلاد عسير لما أحس منه جفوةً بعد وفاة أخيه. وكان جيش نجران يتألف بالدرجة الأولى من بعض قبائل يام (العجمان) مثل مواجد وجشم وآل فاطمة والذين تغلب بهم المكرمي على خصمه فتعززت بذلك مكانته في المنطقة واضطر الشريف إلى مصالحته.[3] وكان العجمان في تلك الفترة قد انساحوا في بلاد نجد مما سبب لهم احتكاكاً مع بعض قبائلها وخاصة سبيع. ولما كانت سبيع موالية لابن سعود وقد وقع عليهم تعدي من بني يام فقد لحق بهم عبدالعزيزابن سعود في القويعية وقتل منهم عدداً وأسر عدداً آخر. فاستنجد العجمان بإخوانهم في اليمن وبالمكرمي صاحب نجران فجاؤوا واشتبكوا مع ابن سعود وجماعته في موقع يسمى الحاير جنوب الرياض، فوقعت الهزيمة على ابن سعود وأراد النجراني أن يلحق بهم في الدرعية، ولكن الشيخ محمد بن عبدالوهاب أشار على ابن سعود بطلب الصلح وبذل الهدايا النفيسة فتم ذلك لهم وقبل المكرمي بالصلح. وهذه هي ذات الحرب التي أشرنا إليها أعلاه والتي كانت في 1178 حيث أراد عرعر الحميد أن يغتنم الفرصة فيغير على الدرعية هو والمكرمي. ولكن الصلح وقع قبل ذلك في نفس اليوم، والتزم المكرمي بالميثاق ولم يقبل بنكث العهد رغم إلحاح عرعر عليه بانتهاز الفرصة، فاضطر عرعر أن يحاصر الدرعية بجيشه مع بعض أهل نجد الذين شايعوه دون النجارين فلم يفلح ورجع إلى الأحساء.[4] وهذه الحرب شجعت بعض زعماء نجد مثل دهام بن دواس وزيد ابن زامل على مؤازرة النجراني ضد آل سعود.[5]

عنوان النص

"هذه رسالة تعزية من نجران لبطين يعزيه عن أبيه عريعر الحاكم"

نص الرسالة

الناس في الموت كخيل الطردة، السابق السابق فيها الجواد، والموت تُقاد على كفه جواهر يختار منها الجواد. الحمد لمن جعل الدنيا دار مجاز وجعل فيها الممر إلى دار الآخرة والجواز، القائل سبحانه وتعالى: "كل نفسٍ ذايقة (ذائقة) الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة. فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز". وأفضل الصلاة على من خصه الله وشرفه على أنبيائه في أول الطراز، وعلى آله وصحبه الباذلين أنفسهم يوم النزل والبراز وبعد،

فنهدي من السلام أشرفه ومن الإكرام أجله وألطفه إلى نادي الشيخ الذي سما مجده على الثريا وأرقاه مراقِ الملكِ مكاناً عليا. من سما أصله وفاق وطابت منه الأرومة والأعراق، ذي البأس الشديد والفخر العتيد والرأي السديد، الأبر الاشهر الشيخ بطان بن عرعر، لا زالت الايام له باسمه والقبول خادمه، وبالنصر والتقديم قادمة وبعد،

فوصل المشرف الكريم المنبئ بالفادح العظيم والرزء الجسيم وفات حي المرحوم الذي أطبق الآفاق مجده، وسرى مسرى النسيم ذكره في غوره ونجده، الملك الشيخ الذي أدركه الحَين، عرعر بن دُجين وحِلته من هذه الدار المشومة بالأكدار، فطاب ثراه ورحم مثواه إلى جناتٍ تجري من تحتها الأنهار. ولقد ضاعف الهموم ورادف الغموم ولكن ما نقول إلا كما قاله السلف الصالحون الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون وصائرون ومنقلبون. وهذا حال الدنيا المائلة بأهلها ميل الآفيآ ولا يصلح منكم إلا الصبر والاحتساب رضاءً بالمقدور وتسليماً في جميع الأمور. وفي الحقيقة ما مات من أنتم خلفه ولا غاب من أنتم سلفه، ولسان حالكم يقول شعراً:

وإني من القوم الذين هُمُو هُمُوا
إذا مات منهم سيد اقام (قام) صاحبه

نجوم سماءٍ كلما غاب كوكبٌ
بدى كوكباً يهدى جميع كواكبه

ولا شك أن الورقة من الشجرة والفرع من الأصل والسهم من النصل. فإذا اتفق الرأي والكلمة فما فقدتم إلا شخصه ولا حل بكم نقصه. جمع الله قلوبكم على الرضى ووفقكم لم يحب ويرضى. وما لمحتم إلى محبكم وإلى الشيخ زيد تحققناه وعرفنا مضمونه وفحواه. وحُق لنا أن ذلك منكم حقيقته الأشباه.  فنقول طب نفساً وقُر عيناً فنحن لك خادمون ولقولك مطيعون ولأمرك سامعون ونحن سيفك المسلول الذي لا يعتريه فلول. ومن ضربت قدمه ضربنا رأسه وأذقناه وباله واخترمنا أنفاسه.

وتبقى وتدوم في كنف الحي القيوم والسلام على مقامكم الكريم ورحمة الله.

القسم الأول من رسالة التعزية من المكرمي صاحب نجران لبُطين بن عُريعر الخالدي

القسم الثاني من رسالة التعزية من المكرمي صاحب نجران لبُطين بن عُريعر الحميد

الوصف: الوثيقة عبارة عن نقل لرسالة تعزية من نجران إلى بطين بن عرعر الحميد أمبر بني خالد.

المصدر: مخطوط رقم 155 من مكتبة المخطوطات الإسلامية التابعة لوزارة الأوقاف بالكويت. والوثيقة هي قطعة من المخطوط تقع في الورقة 78 وتكملتها في الورقة 79 منه.

الموثق: الشيخ سيف بن حمد العتيقي.

التاريخ: الوثيقة تؤرخ لأحداث حصلت في سنة 1188 من الهجرة(1774م). ويبدوا من سيرة المشار إليهم أنها كانت بعد وفاة عرعر بن دجين في تلك السنة. والنقل تم في السنة التي تليها وهي التي ارتحل فيها سيف العتيقي من الكويت إلى الأحساء فنرجح أنه اطلع على أصلها في الأحساء.[6]

الفوائد

1- مصدر الرسالة: يوضح عنوان النص الذي وضعه الموثق سيف العتيقي أن الرسالة تعزية من نجران لبطين في ابيه عريعر الحاكم. وبفحص مستوى الإنشاء وبعض حيثيات الرسالة يتضح أنها صدرت من أمير مكافئء، وحليف قديم لبني خالد من نجران. وهذا الوصف ينطبق على الحسن بن هبة الله المكرمي صاحب نجران.

2- متن الرسالة:

– الفقرة الأولى: تبدأ الفقرة بحمدالله والصلاة والسلام على رسوله وآله واصحابه وفق العرف السائد في المكاتبات بين المسلمين. وذلك في أسلوبٍ أدبي وعظي يشير إلى حتمية الموت والتذكرة بدار المرور إلى دار المستقر. وفي ذلك التفاتة أدبية إلى الموضوع الرئيسي وهو التعزية بوالد المرسل إليه، ضمنها قطعةً من آية قرآنية هي برقم (185) من سورة آل عمران لمناسبتها الموضوع. وختمها بكلمة "وبعد" لينتقل إلى ما بعدها.

– الفقرة الثانية: وهي التحية. فبدأها بالسلام على المرسل إليه في أسلوب أدبي راق، ضمنه عبارات التقدير والإطراء. وأشار إلى تقلد المرسل إليه ملك البلاد وهي الأحساء، وألمح إلى سمو أصله وأرومته وعرقه في إشارةٍ إلى نسبه في قريش.[7] ثم مدحه وذكر بعض الأوصاف مثل البأس الشديد والرأي السديد. وهذا ما كان يطمح فيه صاحب الرسالة مما لم يكن كله صحيحاً كما سيأتي. ولما ذكر اسمه لم يستعمل عبارته الشهيرة بالتصغير "بُطين" وإنما ذكر "بطان" تنزيهاً له عن التقليل. وفعل نفس ذلك في اسم أبيه "عرعر" بدلاً من "عُريعر" ثم لم يفته أن يدعو له بالقبول والنصر في الأيام القادمة. فكأنما يلمح بذلك إلى معارك قادمة. فاستقامت فقرة التحية ومهد لما يريد بعدها بكلمة "وبعد".

– الفقرة الثالثة: وهي التعزية. وبدأها بإشارةٍ إلى وصول رسول بخبر وفاة المتوفى السيخ عرعر. ويظهر أن الرسالة جاءت من بطين نفسه كما سيأتي. ثم تصدر للتعزية ذاكراً شهرة المتوفى وحسن سيرته في البلاد. وهنا لم يفته الإشارة إلى تضاريس هذه البلاد بقوله "غوره ونجده". وهي إشارةٌ تلميحية لما يقصد من تبعية الغور وهو الأحساء لبني خالد، وذكره لنجد وإضافتها إلى الحاكم عرعر فهي إشارة لحضورٍ قديم له في نجد كما سيأتي، وإيرادها في هذا المقام استدراج للمخاطب لما يقصده الراسل. ثم ترحم على المتوفىَ واسترجع وفق ما يستلزمه المقام، واستدعى من المخاطب الصبر والاحتساب، واشار إلى الدنيا الفانية في التفاتة أدبية بديعة. ثم ختمها باستنهاض همة المخاطب إلى القيام بدور أبيه في الحكم، واستشهد ببيت من الشعر مشهور ينسب إلى أبو الطمحان القيني.[8] وفي المصدر يُقرأ عجز البيت الثاني "بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه".

– الفقرة الرابعة: وتضمن دعوةً إلى لم الشمل وجمع الكلمة. فكأنما أحس الراسل في أولاد عريعر المتوفى ما يدعو إلى التفرق والشقاق فدعا كبيرهم إلى الالتفات لذلك والتأسي بسيرة والده حيث الورقة من الشجرة والفرع من الاصل على حد تعبيره. ثم أشار إلى رسالة بطين إليه وإلى الشيخ زيد (يعني ابن زامل صاحب الدلم)، وأنه فهم المقصود منها. لم يفصل ما هو المقصود ولكنه بعدها قرر أنه وقومه "نحن لك خادمون ولقولك مطيعون… ومن ضربت قدمه ضربنا رأسه.." واضح من الكلام ومن السياق التاريخي أن هذه الرسالة جواب على رسالة بطين وفيها تكوين تحالف ضد آل سعود حكام نجد والاستعداد لمعركة فاصلة معهم.

– الفقرة الخامسة: الخاتمة. وتتضمن الدعاء بالحفظ في كنف الحي القيوم والسلام كما هو متوقع في هذا النوع من الرسائل.

 3- لغة الرسالة: تعتبر لغة الرسالة فصيحة إلى حد كبير من ناحية القواعد. ويمكن ملاحظة بعض الهفوات كما في الشعر المستشهد به حيث كتب "اقام" وصوابها "قام"، وكذلك "كوكباً" وصوابها "كوكبٌ". أما الإنشاء فهو متين بالنسبة إلى كتابات ذلك الزمن ويحتوي على الكثير من المحسنات البديعية البلاغية مثل التشبيه والسجع والطباق والجناس مما يحتاج تفصيله إلى مقامٍ غير هذا. ومن الناحية الوظيفية تمتاز الرسالة بالترابط الموضوعي والتسلسل المنطقي مع إدراج إشارات في بعض الفقرات تؤدي إلى التي تليها. وقد حرص الكاتب على أن يفهم القارئ من الرسالة اتفاقاً واضحاً على ما تم التباحث حوله في رسائل سابقة. خلت الرسالة من تصدير باسم صاحبها كما هو متوقع. ومن المرجح أن الناسخ أخفاه مضطراً لسببٍ ما بعد أن اطلع على الاصل. ومفردات الرسالة أكثرها واضح ما عدا بعض العبارات مثل "ميل الآفيا". ولم أعثر على معنى للآفيا يناسب المقام سوى أنه قد يقصد به "الأفياء" جمع فيء وهو الظل، فهو يميل باستمرار فكذلك الدنيا تميل بأهلها.[9]

4- الأحداث التالية: جاءت هذه الرسالة في فترة حرجة من تاريخ الجزيرة العربية. ففي تلك السنة (1188) كان هناك غزو كبيرٌ من عريعر بن دجين على نجد، دخل فيها القصيم واستولى على بريدة بعد حصار، ثم نزل في موضع يسمى "الخابية" قرب "النبقية" ليستعد للهجوم على الدرعية معقل آل سعود، وبدأ بتجميع القبائل وراسله بعض أهل نجد. ولكن أمر الله عاجله بالوفاة في ذلك الموضع في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة.[10] فرجع الجيش إلى الأحساء وكان فيه بطين الذي تولى الحكم بعد أبيه وراسل المكرمي وزيد بن زامل يحثهم على قتال آل سعود كما يفهم من هذا النص. أما آل سعود فقد سنحت لهم فرصة بعد ذلك لاستئناف توسعهم في نجد فبدؤوا بخصمهم اللدود زيد بن زامل وأغاروا على بلدته الدلم غارة تأديبية فقتلوا وغنموا وذلك بقيادة سعود بن الإمام عبدالعزيز بن سعود. ثم أرسلوا سرية إلى الزلفي فحصل بينهم وبين أهل الزلفي قتال. وفي تلك السنة دخلت بعض بلدان نجد في طاعة آل سعود: منهم أهل منيخ في شمال سدير (تشمل المجمعة وحرمة)، ومنهم الهزازنة أهل حريق ونعام في اليمامة.[11] وفي السنة التي تليها (1189)-(1775م) غزا ابن سعود بلد الخرج في اليمامة وقتل وأخذ بعض المال.

لا شك أن هذا التحول الاستراتيجي لصالح الدولة السعودية كان حافزاً لخصومها على تكوين تحالف كبير لمواجهة هذا التمدد الذي هدد مصالحهم. وقد لاحظ بطين ذلك فشرع بتكوين حلفه مع المكرمي وصاحب الدلم. ولكن القدر عاجل بطين فمات بعد أن سار سيرة سيئةً في الأحساء وقتل من أهلها وأرهقهم حتى دخل عليه أخوه سعدون فقتله كما في رواية سيف العتيقي وهو معاصر لهم.[12] وفي رواية ابن بشر أن الذي قتل بطين هم أخواه سعدون ودجين.[13] فربما أنهم اتفقوا عليه وأن الذي باشر القتل هو سعدون.

فكان على زيد ابن زامل بعدها أن يتولى زمام الأمور بنفسه حيث قام هو وأهل وادي الدواسر وغيرهم من أهل الجنوب وبذلوا أموالاً كثيرةً لصاحب نجران لكي يسير معهم لحرب آل سعود. ويظهر أن النجراني لم يكن متحمساً لذلك ولكن أغراه المال، وأمده بطين العريعر بأموال وزاد من الأحساء بدون قوات لانشغاله بمشاكل أخرى. فاجتمعوا النجارين ومعهم قبائل يام وأهل وادي الدواسر والدلم وأهل الخرج وغزوا حائر سبيع وصار بينهم قتالٌ ثم تصالحوا ورحل الغزاة إلى بلد ضرما فقاتلوهم فترة ثم لم يحصلوا على طائل فرجعوا وتوفي المكرمي في طريق العودة.[14] ونتائج هذه المعارك تدل على ضعف القوات الغازية بالنسبة لما كان الأمر عليه قبل ذلك حيث استطاع أهل البلد معالجة الموضوع دون تدخل مباشر من ابن سعود رغم قربه منهم. وتفرغ ابن سعود بعد ذلك لتثبيت سلطته في نجد. وعرف زيد بن زامل أنه لا طائل من الاستمرار في المعارضة فقدم على ابن سعود ودخل في طاعته في تلك السنة.[15]

5- التعريف بالشخصيات:

– عرعر بن دجين آل حميد:  تولى عرعر (عريعر) بن دجين في الأحساء بعد وفاة عم والده الشيخ سليمان بن محمد الحميد وذلك في سنة 1165 (1000م). وهو عريعر ين دجين بن سعدون بن محمد بن غرير الحميد.[16] فلما تولى تعرض لغدر من أحد أقاربه ويسمى حمادة وأجلا عريعر فتوجه إلى جلاجل في سدير. ثم اتفق بعض رؤساء بني خالد ضد حمادة فهرب إلى الشمال ورجع عريعر إلى ملكه. وكان لعريعر نفوذ في نجد يتضح من حملته في 1172 السابق ذكرها في معركة الجبيلة، حيث دخل معه أهل سدير ومنيخ والوشم والخرج والرياض ضد آل سعود في الدرعية. وفي عام 1176 شن آل سعود غارة على الأحساء في بلد المطيرفي وبلد المبرز فقتلوا وغنموا، واثار ذلك حفيظة عريعر فتجهز لحربهم بعدما علم بخروج النجراني في 1178 ولكنه وصل متأخراً كما سبق ذكره فرجع دون طائل.[17] توفي عريعر في ربيع الأول 1188 كما تقدم وخلف من الأولاد ثمانية من الذكور.[18]

– بطين بن عرعر: تولى بعد وفاة والده في الحملة على نجد. وكان سيء السيرة وأرهق أهل الأحساء بإنفاق المال في الحرب. ورد في أخباره أنه قُتل في رمضان (1188) بعد ما رجعت الحملة من نجد وأنه قُتل خنقاً، وفي رواية أخرى قُتل بالسم.[19] ولكن عصريه سيف العتيقي سجل في رحلته أنه "فقدموا الأحسا نهار اثنا وعشرون من جمادى الآخر فإذا بطين مقتول قتله أخوه سعدون وقد أهلك الرعية و الأحسا حتى قاتلهم هذا سبب قتله" وكان ذلك في 1189 ويوافق 20 أغسطس 1175م.[20] وظاهر العبارة يوحي بأن الحادثة صارت قبل قليل من وصول سيف إلى الأحساء لأنه كان قبلها بأسابيع في القطيف، ولا يحتاج البريد مدة أكثر من ذلك ليصل من الأحساء إلى القطيف بخبر جسيم كهذا. فالظاهر أن بطين قُتل في جمادى الأولى أو الثانية من 1189 وذلك يمنحه فترة كافية لكي يشعر الأهالي بظلمه وجوره ويضطر أخوه إلى قتله. ومما يدعم ذلك وجود رواية أخرى تفيد أن مقتل بطين كان في 1189 حيث تولى بعده أخوه دجين والذي لم تطل أيامه.[21]

الحسن بن هبة الله المكرمي: صاحب نجران ورئيسها وداعيتها. تولى الأمر فيها بعد وفاة أخيه إسماعيل في 1184 كما تقدم. وهو اسماعيلي المذهب، يفهم من أخباره أنه واسع الحيلة ونُسجت حوله أساطير حتى زعم بعضهم أنه ساحر. ويتضح من رسالته هذه أنه على قدر عال من الثقافة والدهاء. تقدمت أخباره في ثنايا البحث وأنه كان له صولاتٌ في جوار نجران، وأنه توفي في العودة من حملته الأخيرة على نجد في 1189 (1775م).[22] واستمر حكم المكارمة في نجران بعد ذلك فترة من الزمن حتى إن الرحالة الفرنسي هالِفي وصف نجران في رحلته إلى اليمن سنتي 1869- 1870م ووجد فيها وفيما حولها رئيساً دينياً (داعي) وحاكماً يسمى المكرمي.[23] وهذي صورة بلاد نجران كما في رحلة هالفي. وتبين طريق الدواسر في طرفها الشمالي الشرقي.

خارطة بلاد نجران. مجلة الجمعية الجغرافية الفرنسية 1873.

خارطة بلاد الدواسر وعلاقتها بنجران. مجلة الجمعية الجغرافية الفرنسية. 1873.

زيد بن زامل العائذي: شيخ الدلم في اليمامة. ويظهر أن أجداده كان لهم حكم قديمٌ هناك وكان يقال لهم آل عثمان حيث أن عيسى بن عثمان كن اميراً في الدلم في عام 981 (1573م). ثم إن زامل بن عثمان كان يحكم الدلم في 1094 (1683م). وحكم هذه الأسرة استمر في الدلم إلى 1199 (1785م).[24] أما زيد بن زامل فهو المذكور في وثيقتنا وقد ذكرنا أخباره. خرج زيد عن طاعة آل سعود بعد انضمامه الأول وتكررت المعارك بينهم حتى قُتل في 1197 (1783م) في وقعة بينه وبين جيش لآل سعود وقبيلة سبيع.[25]

سيف بن حمد العتيقي: عالم نجدي من بلدة حرمة في مُنيخ (شمال سدير). ولد في 1106 وتوفي في 1190 في الأحساء وصلى عليه صاحبه محمد ابن فيروز. وصفه صاحبه الشيخ محمد بن فيروز الأحسائي أنه فقيه صالح، حافظ لكتاب الله تعالى لايغفل عن تلاوته، معرضاً عن الدنيا باذلاً لها، سخي النفس. ومن أعماله الخيرة مدرسة ومكتبة مشهورة في حرمة أوقف عليهما بيتا من بيوته ونخلا. ينتهي نسبه إلى "العتيق" أبي بكر الصديق رضي الله عنه من قريش. له ترجمة في كتاب السحب الوابلة لابن حميد وعلماء نجد لعبدالله البسام وحققنا سيرته في موقع العتيقي.[26] كان إماماً لمسجد ابن سليم في حرمة

وناسخاً للكتب العلمية، وله مجموع شهير يحتوي على مسائل فقهية وفوائد متنوعة ومنها النص المعروض هنا.

وكتبه

 د. عماد بن محمد العتيقي

ربيع الأول 1440- نوفمبر 2018م


الهوامش:

[1] عثمان ابن بشر"عنوان المجد في تاريخ نجد" ج1. ص.60. مكتبة الرياض الحديثة.

[2] عبدالله المبرز وحمد الوهيبي "تاريخ البلدان النجدية" دار فيصل الثقافية. 1408-2009م. ص.284-285. وانظر التفاصيل في "بنوخالد وعلاقتهم بنجد" تأليف عبدالكريم بن عبدالله المنيف الوهبي. دار ثقيف للنشر والتأليف-الرياض  1410-1989م (الفصل الخامس).

[3] محمد بن أحمد العقيلي "تاريخ المخلاف السليماني" ج1. دار اليمامة ط2 1402-1982م. ص. 406-408. وحول تفصيل قبائل العجمان وبني يام أنظر فؤاد حمزة "شبه جزيرة العرب" دار اليقين، مصر. ص. 182-183، 203-204.

[4] لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب. تحقيق عبدالله الصالح العثيمين. دارة الملك عبدالعزيز، 1426. ص. 88-92. أيضاً الوهبي. مرجع سابق. ص. 270-273.

[5] الوهبي. مرجع سابق. ص. 270-271.

[6] انظر: عماد بن محمد العتيقي، "رحلات الشيخ سيف العتيقي الأخيرة بين نجد والكويت والأحساء" (1189-1775م). موقع العتيقي. وثيقة رقم  (36).

[7] حول نسب بني خالد في المخزوميين من قريش أنظر: المطهر بن محمد الجرموزي (ت 1076) "تحفة الأبصار والأسماع بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار"، ج2، تحقيق عبدالحكيم بن عبدالمجيد الهجري. مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، صنعاء 1423-2002م. ص. 640-644. وبنو خالد بطبيعة الحال حلف من قبائل متباينة النسب، أنظر: راشد بن محمد بن عساكر (محقق): نبذة في أنساب أهل نجد، تأليف جبر بن سيار. 1422-2001م. ص. 85-88.

[8] أحمد بن محمد ابن خلكان "وفيات الأعيان" ج1. دار إحياء التراث العربي. بيرةت. 1417-1997م. ص.38-39. وأبو الطمحان القيني هو حنظلة بن الشرقي.

[9] إفادة خاصة من الأستاذ الدكتور حمد بن ناصر الدخيل يحفظه الله.

[10] ابن بشر. مرجع سابق. وأيضاً الوهبي. مرجع سابق. ص. 286.

[11] ابن بشر. المصدر السابق.

[12] "رحلات الشيخ سيف العتيقي الأخيرة". مصدر سابق.

[13] ابن بشر. مرجع سابق.

[14] ابن بشر. مرجع سابق. وأيضاً الوهبي. مرجع سابق. ص. 288-289.

[15] ابن بشر. مرجع سابق.

[16] أبوعبد الرحمن بن عقيل الظاهري "أنساب الأسر الحاكمة في الأحساء" ق2. دار اليمامة، الرياض. ص.77،  178-190.

[17] المرجع السابق.

[18] المرجع السابق.

[19] المرجع السابق.

[20] انظر: موقع العتيقي. وثيقة رقم (36).

[21] الظاهري. مرجع سابق.

[22] الوهبي. مرجع سابق.

[23] Joseph Halevy "Voyage au Nedjran" Bulletin de la Societe de la Geographie. Tome 6. 1873. pp. 6-31.

[24] راشد بن محمد بن عساكر "قوافل الحج المارة بالعارض". درة التاج للنشر والتوزيع. 1426-2005م. ص. 73-74.

[25] عبدالله المبرز وحمد الوهيبي. مرجع سابق. ص. 188-190.

[26] انظر: سيرة الشيخ سيف بن حمد العتيقي.

Loading