عدد الزوار:3858
نماذج من أخلاق الكويتيين الحميدة قديما- التسامح والوفاء
مقدمة: بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد فقد كان المجتمع الكويتي في الماضي يتميز بصفات حميدة عديدة تنطلق من روح الدين الإسلامي ومن الطبيعة المهنية التي نشأ عليها أهل الكويت في أعمالهم حيث كان العمل في سبيل لقمة العيش من الأمور الأساسية التي تصقل شخصيتهم نحو الالتزام والاحتراف والحزم والوفاء. ومن خلال ذلك تلعب الروابط الاجتماعية دوراً كبيراً في تشكيل تصرفاتهم تعاملاتهم البينية. وقد أدى ذلك إلى تميز الكويتيين من بين الشعوب المجاورة بصفات لم يغفل عنا الزائرون والرحالون الذين دونوا ملاحظاتهم عن الشعوب التي قاموا بزيارة ديارها. ومن أقدم هؤلاء الرحالة البريطاني بكنجهام الذي قام بزيارة المنطقة عام 1816م وسجل ملاحظاته عام 1829م عن بعض شعوبها. فقال عن الكويتيين في معرض ذكر التجارة في السفن البحرية ما يلي: البلد (القرين أو الكويت) ذاتها مأهولة بشعب تجاري والذين يعملون بكافة أنواع التجارة المتوفرة في الخليج، والميناء يخرج منه (في الوقت الواحد) حوالي مائة سفينة أو مركب، صغير وكبير. والناس الذين يبحرون بهذه المراكب ، كما التجار الذين يعملون لصالحهم يمتلكون أعلى مواصفات الاستقامة، المهارة،الحزم والشجاعة (1). وفي ما يلي نماذج مختصرة من مظاهر تلك الأخلاق والتي نركز فيها علي خصلتي التسامح والوفاء، مستمدة من فترات تاريخية مختلفة.
النموذج الأول - التسامح والوفاء في استقضاء الدين:
كان تجار الكويت كما ذكر أعلاه يتميزون بوفرة تجارتهم وتعدد أنواعها. وكانوا لا يتوقفون عن التجارة البحرية بل يسوقون بضاعتهم داخل الجزيرة العربية ونواحي العراق حيث يتيسر لهم ذلك. ومن البلدان التي انتشر نشاطهم فيها مبكراً بلد سوق الشيوخ القريبة من الناصرية في جنوب العراق (2). وحصل أن توفي أحد التجار الكويتيين هناك وكان عليه ديون لعدد من التجار. وكان وكيله ابن عم له كون المتوفى ترك أولاداً صغاراً. فتم استدعاء الوكيل لمجلس الحكم بحضور التجار الدائنين، ولم يكن يعلم بموضوع الديون وحجمها فحضر ومعه حجة شرعية بالوكالة لقبض التركة. فلما حضر مجلس القضاء وتم حصر الديون تبين له أن ما ترك المتوفى لا يفي بقضاء الدين لا سيما وهو من عروض التجارة ومتفرق بين عدد من التجار. فقام الوكيل بعزل نفسه عن الوكالة حيث لم يكن له طاقة بالوفاء باحتياجاتها. فطلب القاضي من الحاج عبدالعزيز بن حمد بن سيف العتيقي أن يتحمل الوكالة على المتروكات بما فيها من ديون كون أغلب الدين كان لصالحه. وقبل عبدالعزيز ذلك حتى أنه سبل دينه في سبيل قضاء ديون الآخرين بعد إجراء المقاصة بينهم. وقد ورد في حجة شرعية مؤرخة في 1262هجرية في سوق الشيوخ ومصدقة من قاضي الكويت ما يلي: " فرفع الأمر إلى كاتب هذه الـأحرف أن يولي فاختار المومى إليه أسبل الله ذسل ستره وعفوه عليه الحاج عبدالعزيز بن حمد بن سيف وولاه على جميع متروكات...(المتوفى) فقبل المولى تلك الولاية والتزم بأداء لوازمها على النمط الشرعي فبموجب ذلك لم يكن للمدايين وجه على.. (الوكيل المعزول) بل ما ثبت لهم من الدين على... (المتوفى) يلزم المتولي عبدالعزيز أن يؤديه لهم من مخلفات... (المتوفى) ودين عبدالعزيز الذي له هو..." (3).
النموذج الثاني- زهد التجار في الوكالات التجارية وفاءً لبعضهم:
كان في الكويت حركة تجارية نشطة كما أسلفنا من قبل منذ مطلع القرن الثالث عشر الهجري(التاسع عشر الميلادي). وقد توسعت هذه الحركة على مر السنين ورأينا أنها في زمن الحاكم الثالث جابر بن صباح وصلت براً إلى سوق الشيوخ وقلب نجد. واستمر التوسع إلى عهد الشيخ مبارك الصباح في أواخر القرن التاسع عشر الهجري وأوائل القرن العشرين. وفي عهد مبارك ازدهرت تجارة السلاح بسبب التنافس السياسي على منطقة الخليج وكان هناك وكلاء عالميين وإقليميين لهذه التجارة، فمن العالميين الفرنسي جوجييه Gogiyeere ومن أهل الخليج إبراهيم الباز الذي كان وكيلا لجوجييه في مسقط وهو ميناء رئيسي لهذا النوع من التجارة. وكان في الكويت تجار متخصصون في السلاح منهم عبدالله بن محمد العتيقي ومحمد صادق معرفي وآخرين (4). وكان الشيخ مبارك مهتماً بتسهيل تجارة السلاح حيث كانت تدر عليه دخلاً وفيراً من خلال إعادة تصديرها إلى المناطق المجاورة. وكان عبدالله العتيقي موزعاً محلياً لإبراهيم الباز وبالتالي لجوجييه في الكويت. وفي إحدى الصفقات وصلت ميناء الكويت في يونيو 1910م سفينة (بغلة) من مسقط تحمل شحنة كبيرة عدد 3000 بندقية وكمية من الذخيرة ورد في تقرير بريطاني أنها تعود لعبدالله العتيجي (العتيقي) وتجار آخرين. وكان الوكيل إبراهيم الباز ذلك الوقت موجوداً في الكويت لمتابعة أمورها.
ويبدو أن الأمور لم تعد تجري على ما يرام بعد ذلك بين الباز والعتيقي مما حدا بالباز أن يفسخ شراكته مع العتيقي في يوليو 1912م. ونظراً إلى أهمية الموضوع بالنسبة له وما يحصل من أرباح من تجارته مع الكويت فقد حاول أن يتفق مع شريك كويتي أخر يكون وكيلاً له. إلا أن التجار الكويتين الذين تفاوض معهم رفضوا عروض وكالته. وبلغ من أهمية هذا الحدث بالنسبة إلى البريطانيين الذين حاولوا منع تجارة الأسلحة في الخليج أن يراقبوا كل تحركات وكلاء الأسلحة ومنه أن وثقوا هذه الحادثة في تقاريرهم التي تعود إلى تلك الفترة كما هو مبين أدناه. وهذا الحدث يبين المكانة التي كان يتمتع بها التاجر عبدالله العتيقي بين زملائه من التجار الكويتيين ومدى وفائهم وتقديرهم له إذ زهدوا في وكالة كان يمكن أن تدر عليهم أرباحاً وفيرة تحت غطاء من السلطة المحلية. ونستقطع هذا النص من التقرير الانجليزي المؤرخ في 1912 ليوضح ما حدث.
النموذج الثالث- التسامح في القصاص:
روى العم عبدالرحمن سالم العتيقي عن أيام عمله في الشرطة (بين 1955-58م)عن رجل من أهل الكويت لم يكن له ولد، فنصحه أقاربه بالزواج حتى ولد له مولود ذكر. وكبر المولود وصار يلعب على عادة الصبيان. وفي يوم مرت سيارة ووقفت بجوار البيت، فدخل الصبي يلعب تحتها حيث لم تكن السيارات سابقاً مألوفة. وعاد السائق وشغل السيارة والصبي تحتها فدهسته السيارة ومات. واستدعي السائق لمقر الشرطة وحضر والد الصبي، وأودع السائق غرفة السجن في المركز حتى يتم التحقيق. وهنا توجه الأب إلى العتيقي حيث كان سكرتير دائرة الشرطة يطلب رؤية الجاني. فقال له : ماذا تريد منه. فرد الأب : أريد رؤيته. وهنا طلب العتيقي من فردين من أفراد الشرطة أن يأتوا بالسائق إلى غرفة من غرف المركز، وطلب من شرطيين آخرين التوجه إلى الغرفة بصحبة الأب تخوفاً من حدوث مكروه. وحضر العتيقي معهم. وعندما حضر السائق قام الأب وأمسك بيده وقال له: "الله أخذ والله أعطى وأنت لا أريد منك شيئاً " (5).
وهنا سألت العم إذا كان يذكر اسم الرجل والد الطفل فأجاب بنعم هو مطرف المنيس.
خلاصة: وثقنا فيما سبق نماذج من أخلاق الكويتيين قديماً مما قد يبدو بعضه غريباً أو غير مألوف في الوقت الحالي مع تبدل الزمان والأحوال. لعله يكون دافعاً للأجيال الحاضرة والمستقبلة للتأسي بهذه الأخلاق الكريمة التي تتوافق مع تعاليم الأديان وآداب الحضارة.
وكتب د. عماد بن محمد العتيقي
ذي الحجة 1434 الموافق أكتوبر 2013
الهوامش: